اشتهر عن العديد من المؤرّخين الحديث عن ردّة بعض المسلمين بعد رحيل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومنهم أهل البحرين حيث أشار البعض إلى ردّتهم عن الإسلام.
قال ابن الأثير: فلما مات المنذر بن ساوى ارتد بعده أهل البحرين([1]) .
وقال ابن كثير: فلما مات المنذر ارتد أهل البحرين وملكوا عليهم الغرور([2]) .
وقد اعترض بعض الشيعة الإمامية على ذلك وعده من التهم لأهل البحرين ومنهم الشيخ محمد علي التاجر في كتابه(عقد الآل في تأريخ أوال)، قال: فإنّ الردّة عن الإسلام لهؤلاء- أي أهل البحرين- غير صحيحة وإن منعوا الزكاة ولم يذعنوا للولاة فلا يعني ذلك عبادة غير الله وما ذلك لنكوصهم عن الإسلام وما هو إلا لرفضهم الخلافة التي تمّت على غير ما يعتقدون وهم على إسلامهم ثابتون لا يتزعزعون([3]) .
وهنا تطرح أسئلة مهمة يجب التعرّض إليها ومنها: هل صحيح أن البحرين ارتدوا عن الإسلام؟
وما هو الدليل على ارتدادهم؟
وما هو دليل من خالف ردّتهم عن الإسلام؟
وهل أنّ ما استدل به البعض ومنهم الشيخ التاجر من أنّ رمي أهل البحرين بالردّة إنما هو لتشيّعهم ورفضهم تسليم الزكاة لغير الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)؟
تمهيد
قبل الدخول في صلب البحث لا بد من التمهيد بمطلبين:
الأول: أنّ بحث الردّة بشكل عام من المباحث المهمّة جداً، ولذا العديد من الأعلام بحثوه بالتفصيل وكتبوا فيه الكتب المختلفة ومن ذلك: كتاب الردّة لأبي مخنف، وكتاب المبعث والمغازي والسقيفة والردة لأبان بن عثمان، وكتاب الردة لسيف بن عمر، وكتاب الردة لعبدالله بن وهب القرشي، وكتاب الردة لهشام بن محمد الكلبي، وكتاب الردة لإسحاق بن بشر البخاري، وكتاب الردة لمحمد بن عمر الواقدي، وكتاب الردة لأبي الحسن علي بن محمد المدائني، وكتاب الردة لإسماعيل بن عيسى العطار.
الثاني: أنّ أهل البحرين ممّن عُرفوا بولائهم لأمير المؤمنين (عليه السلام) والمشايعة له حيث ولّى رسول (صلى الله عليه وآله) أبان بن سعيد بن العاص عليهم، وقد امتدّت ولايته إلى حين وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) وهو أول من غرس بذور التشيّع في البحرين.
ونُقل أنّ هذا الرجل رفض الولاية بعد رحيل النبي(صلى الله عليه وآله) وترك البحرين عائداً إلى المدينة وتخلّف عن بيعة أبي بكر لينظر ما يصنع بنو هاشم، وقد لامه عمر بن الخطاب على ذلك، فقال: ما كان حقك أن تقدم وتترك عملك بغير إذن إمامك([4]) .
ولنفس الأمر امتنع أهل البحرين عن دفع الزكاة.
نبذة حول أهل البحرين في عهد الردّة
كان أهل البحرين في عهد الردّة ينقسمون إلى ثلاث قبائل وهي:
1- قبيلة عبدالقيس.
2-قبيلة بكر بن وائل.
3-قبيلة تميم بن مر.
وقد اتفق المؤرّخون على ردّة قبيلة بكر بن وائل، واختلفوا في ردّة قبيلة عبدالقيس، والأكثرية قالوا بردّتها ورجوعها إلى الإسلام، ولم يتعرّض أحد منهم إلى القبيلة الأخيرة.
قال الطبري: مات النبي (صلى الله عليه وسلم) ، فقالت عبد القيس: لو كان محمداً نبياً لما مات وارتدوا([5]) ، وقد سار كل من تأخر عن الطبري على كلامه وأخذوه أخذ المسلمات، بل إنّ بعضهم نقل نفس عبارات الطبري.
ومقابل قول الطبري بردّة قبيلة عبدالقيس هناك قول للواقدي بردة قبيلة بكر بن وائل، قال: كان من سبب أهل البحرين وارتدادهم عن دين الإسلام، أن نفراً من بكر بن وائل كانوا يعادون قبائل عبدالقيس، وعبدالقيس يومئذ بالبحرين متمسّكون بدين الإسلام، لم يرتدوا مع من ارتد، وجعل هؤلاء الذين ارتدوا من بكر بن وائل يقول بعضهم لبعض: تعالوا نرد الملك في دار النعمان بن المنذر، فإنه أحق بهذا الأمر من ابن أبي قحافة([6]) .
ملاحظات حول القولين
بعد أن اتضح القولان لا بأس أن نبدي بعض الملاحظات حولهما، فنقول:
1- أنّ خبر الطبري الذي صار مصدراً لجميع من تأخّر عنه مروي عن سيف بن عمر المعروف بكذبه وتدليسه للأحداث.
يقول الذهبي في كتابه (ميزان الاعتدال) : سيف بن عمر الضبي الأسدي، ويقال التميمي البرمجي، ويقال السعدي الكوفي....قال عباس، عن يحيى: ضعيف.
وروى مطين، عن يحيى: قلس خير منه.
وقال أبو داود: ليس بشيء.
وقال أبو حاتم: متروك.
وقال ابن حبان: أتهم بالزندقة.
وقال ابن عدي: عامة حديثه منكر([7]) .
2- أنّ أهل الرجال اختلفوا في الواقدي، فضعّفه الأكثر ومنهم الذهبي المعروف بالنقد، قال: قال أحمد بن حنبل: هو كذّاب، يقلّب الأحاديث، يلقى حديث ابن أخي الزهري على معمر ونحو ذا.
وقال ابن معين: ليس بثقة.
وقال مرة: لا يكتب حديثه.
وقال البخاري وأبو حاتم: متروك.
وقال أبو حاتم أيضاً والنسائي: يضع الحديث.
وقال الدارقطني: فيه ضعف.
وقال ابن عدي: أحاديثه غير محفوظة والبلاء منه([8]) .
وقد صرّح الذهبي نفسه أنّ بعض أهل الرجال وثّقوه، فقال: وقد وثق جماعة، فقال محمد بن إسحاق الصغاني: والله لولا أنه عندي ثقة ما حدثت عنه.
وقال مصعب: ثقة مأمون.
وقال جابر بن كردي: سمعت يزيد بن هارون يقول: الواقدي ثقة، وكذا وثقه أبو عبيد([9]) .
وبالرغم من هذا الاختلاف في وثاقة وضعف الواقدي إلا أنّ حاله أفضل من سيف بن عمر الذي روى الطبري عنه حيث إنّ الرجاليين أجمعوا على تضعيفه.
وأمّا الاستدلال على صحة قول الطبري- بأنّ قول الواقدي قد انفرد به، بخلاف قول الطبري حيث تناقله المؤرّخون- لا يؤثّر في صحّة وسقم هذا القول بعد معرفة حال الواقدي وسيف بن عمر.
أضف إلى ذلك أنّ وفاة الواقدي كانت في عام (207) من الهجرة، وهذا قبل مولد الطبري الذي ولد عام (310) للهجرة، فالواقدي أقرب إلى واقعة الردّة فيرد احتمال أنه عثر على بعض المصادر التأريخية للواقعة لم تصل للطبري.
وهذا الاحتمال في حقيقة الأمر لا يخلو عن ضعف لقصر الفاصلة بينهما وبعد عثور الواقدي على مصادر للواقعة وغيابها عن الطبري الذي تفصله عنه مدة زمنية قصيرة.
ومن مؤيّدات قول الواقدي أنّ قبيلة عبدالقيس دخلوا الإسلام طوعاً والقول بارتدادهم عن الإسلام بعيد جداً.
3- أنّ النصوص التأريخيّة تنص على أنّ من رمى أهل البحرين بالردّة إنّما رماهم بذلك لأنّهم لم يدفعوا الزكاة، وهذا مجمل يحتمل أنّهم لم يعطوا الزكاة لردّتهم وعدم اعتقادهم بها، أو أنّهم لم يعطوها لاعتقادهم أنّ الزكاة يجب إعطاؤها لخليفة رسول الله(صلى الله عليه وآله) مع تحفّظهم على خلافة أبي بكر.
بل هناك نصّ صريح للبكري- في عدم ردّة أهل القطيف لما انحاز إليهم الجارود الذي ثبت على الإسلام وحارب بنو بكر الذين ارتدوا- قال: وإلى القطيف انحاز الجارود بعبدالقيس حين ارتدت بنو بكر حين اشتد حصار بكر للقطيف وجواثي([10]) .
ومن الواضح أنّ تعبيره عنهم بالثبات يكشف عن أنّهم لم يرتدوا أصلاً.
4-أنّ نص الواقدي يفيد أنّ بعض قبيلة بكر بن وائل ارتدوا عن الإسلام وليس جميعهم، ولذا فإنّ رمي أهل البحرين كافة بالردّة بعيد جدا عن الانصاف والدقّة.
قال الواقدي: كان من سبب أهل البحرين وارتدادهم عن دين الإسلام، أن نفراً من بكر بن وائل كانوا يعادون قبائل عبدالقيس، وعبدالقيس يومئذ بالبحرين متمسّكون بدين الإسلام، لم يرتدّوا مع من ارتدّ، وجعل هؤلاء الذين ارتدوا من بكر بن وائل يقول بعضهم لبعض: تعالوا نرد الملك في دار النعمان بن المنذر، فإنه أحق بهذا الأمر من ابن أبي قحافة([11]) .
مدخليّة تشيّع أهل البحرين في اتهامهم بالردّة
وأمّا مسألة علقة تشيّع أهل البحرين في اتهامهم بالردّة يتضح القول فيه من خلال بيان مطالب ومنها:
أولاً: أنّ من رمى أهل البحرين بالردّة إنّما رماهم بذلك لأنّهم لم يدفعوا الزكاة، وهذا مجمل يحتمل أنّهم لم يعطوا الزكاة لردّتهم وعدم اعتقادهم بها، أوأنّهم لم يعطوها لاعتقادهم أنّ الزكاة يجب إعطاؤها لخليفة رسول الله(صلى الله عليه وآله) مع تحفّظهم على خلافة أبي بكر.
بل هناك نصّ صريح للبكري- في عدم ردّة أهل القطيف لما انحاز إليهم الجارود الذي ثبت على الإسلام وحارب بنو بكر الذين ارتدوا- قال: وإلى القطيف انحاز الجارود بعبدالقيس حين ارتدت بنو بكر حين اشتد حصار بكر للقطيف وجواثي([12]) .
ومن الواضح أنه تعبيره عنهم بالثبات يكشف عن أنهم لم يرتدوا.
ثانياً: يظهر من قول الواقدي أنّ بعض قبيلة بكر بن وائل ارتدّوا عن الإسلام وليس جميعهم، قال الواقدي: كان من سبب أهل البحرين وارتدادهم عن دين الإسلام، أن نفراً من بكر بن وائل كانوا يعادون قبائل عبدالقيس، وعبدالقيس يومئذ بالبحرين متمسكون بدين الإسلام، لم يرتدوا مع من ارتد، وجعل هؤلاء الذين ارتدوا من بكر بن وائل يقول بعضهم لبعض: تعالوا نرد الملك في دار النعمان بن المنذر، فإنه أحق بهذا الأمر من ابن أبي قحافة([13]) .
ولذا فإنّ رمي أهل البحرين كافّة بالردّة بعيد جداً عن الانصاف والدقّة.
ثالثاً: أنّ أبا بكر نفسه يصرّح في كلامه أن بعض المرتدين من يصلي وهذا يوحي أنهم مسلمون، قال: وأمّا من ارتدت من هؤلاء العرب، فمنهم من لا يصلّي وقد كفر بالصلاة، ومنهم من يصلّي وقد منع الزكاة([14]) .
رابعاً: قول أبي بكر نص صريح يكشف عن علمه بين الفئتين، بينهما ومع ذلك تعامل معهما على حد سواء الأمر أثار حفيظة عمر ودعاه إلى الاعتراض عليه وتذكيره بحديث من رسول الله، فقال: فلو أغمضت وتجافيت عن زكاة هؤلاء العرب في عامك هذا ورفقت بهم، لرجوت أن يرجعوا عما هم عليه، فقد علمت أن رسول الله(صلى الله عليه وآله) كان يقول: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وإني محمد رسول الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله([15]) .
مجمل هذه الأمور تدعو إلى التساؤل والاستغراب عن تحامل أبي بكر على أهل البحرين، فهو يعلم جيداً أنّهم يؤمنون بالله ورسوله ولكنّهم امتنعوا عن إعطاء الزكاة، فتعاطى معهم على أنّهم مرتدين ما يكشف أنّه أراد تصفية صوت المعارضة له وإخماد صيت كل من يتحفّظ على خلافته.
([1]) الكامل في التأريخ: 2/367.
([2]) البداية والنهاية: 6/360.
([3]) عقد الآل في تأريخ أوال: 73.
([4]) كنز العمال: 5/620.
([5]) تأريخ الطبري: 2/520.
([6]) كتاب الردة: 63.
([7]) ميزان الاعتدال: 2/255.
([8]) ميزان الاعتدال: 3/663.
([9]) ميزان الاعتدال: 3/665.
([10]) معجم ما استعجم: 3/1084.
([11]) كتاب الردة: 63.
([12]) معجم ما استعجم: 3/1084.
([13]) كتاب الردة: 63.
([14]) كتاب الردة: 51-52.
([15]) كتاب الردة: 51-52.
تم ارسال رسالتك بنجاح