الكتاب: تاريخ الأمم والملوك
المؤلف: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (ت 310)
تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم
الطبعة، بيروت، دار التراث، ط الثانية، 1387/1967
تاريخ الطبري، ج3، ص:301
ذكر خبر اهل البحرين ورده الحطم ومن تجمع معه بالبحرين
قال ابو جعفر: وكان فيما بلغنا من خبر اهل البحرين وارتداد من ارتد منهم ما حدثنا عبيد الله بن سعد، قال: أخبرنا عمى يعقوب بن ابراهيم، قال: أخبرنا سيف، قال: خرج العلاء بن الحضرمى نحو البحرين، وكان من حديث البحرين ان النبي ص والمنذر بن ساوى اشتكيا في شهر واحد، ثم مات المنذر بعد النبي ص بقليل، وارتد بعده اهل البحرين، فأما عبد القيس ففاءت، واما بكر فتمت على ردتها، وكان الذى ثنى عبد القيس الجارود حتى فاءوا.
حدثنا عبيد الله، قال: أخبرنا عمى، قال: أخبرنا سيف، عن اسماعيل بن مسلم، عن الحسن بن ابى الحسن، قال: قدم الجارود بن المعلى على النبي ص مرتادا، فقال: اسلم يا جارود، فقال: ان لي دينا، قال له النبي ص: ان دينك يا جارود ليس بشيء، وليس بدين، فقال له الجارود: فان انا اسلمت فما كان من تبعه في الاسلام فعليك؟ قال: نعم فاسلم ومكث بالمدينة حتى فقه.
فلما اراد الخروج، قال: يا رسول الله، هل نجد عند احد منكم ظهرا نتبلغ عليه؟ قال: ما اصبح عندنا ظهر، قال: يا رسول الله، انا
تاريخ الطبري، ج3، ص:302
سنه 11 نجد بالطريق ضوال من هذه الضوال، قال: تلك حرق النار، فإياك وإياها فلما قدم على قومه دعاهم الى الاسلام فأجابوه كلهم، فلم يلبث الا يسيرا حتى مات النبي ص فقالت عبد القيس: لو كان محمد نبيا لما مات، وارتدوا، وبلغه ذلك فبعث فيهم فجمعهم، ثم قام فخطبهم، فقال: يا معشر عبد القيس، انى سائلكم عن امر فأخبروني به ان علمتموه ولا تجيبوني ان لم تعلموا قالوا: سل عما بدا لك، قال: تعلمون انه كان لله أنبياء فيما مضى؟ قالوا: نعم، قال: تعلمونه او ترونه؟
قالوا: لا بل نعلمه، قال: فما فعلوا؟ قالوا: ماتوا، قال: فان محمدا ص مات كما ماتوا، وانا اشهد ان لا اله الا الله وان محمدا عبده ورسوله، قالوا: ونحن نشهد ان لا اله الا الله وان محمدا عبده ورسوله، وانك سيدنا وأفضلنا وثبتوا على اسلامهم، ولم يبسطوا ولم يبسط اليهم وخلوا بين سائر ربيعه وبين المنذر والمسلمين، فكان المنذر مشتغلا بهم حياته، فلما مات المنذر حصر اصحاب المنذر في مكانين حتى تنقذهم العلاء.
قال ابو جعفر: واما ابن إسحاق فانه قال في ذلك ما حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمه عنه، قال: لما فرغ خالد بن الوليد من اليمامه بعث ابو بكر رضى الله عنه العلاء بن الحضرمى وكان العلاء هو الذى كان رسول الله ص بعثه الى المنذر بن ساوى العبدى، فاسلم المنذر، فأقام بها العلاء أميرا لرسول الله ص، فمات المنذر بن ساوى بالبحرين بعد متوفى رسول الله ص، وكان عمرو بن العاص بعمان، فتوفى رسول الله ص وعمرو بها فاقبل عمرو، فمر بالمنذر بن ساوى وهو بالموت فدخل عليه فقال المنذر له:
تاريخ الطبري، ج3، ص:303
سنه 11 كم كان رسول الله ص يجعل للميت من المسلمين من ماله عند وفاته؟ قال عمرو: فقلت له: كان يجعل له الثلث، قال: فما ترى لي ان اصنع في ثلث مالي؟ قال عمرو: فقلت له: ان شئت قسمته في اهل قرابتك، وجعلته في سبيل الخير، وان شئت تصدقت به فجعلته صدقه محرمه تجرى من بعدك على من تصدقت به عليه قال: ما أحب ان اجعل من مالي شيئا محرما كالبحيرة والسائبة والوصيله والحامى ولكن اقسمه، فانفذه على من اوصيت به له يصنع به ما يشاء قال:: فكان عمرو يعجب لها من قوله وارتدت ربيعه بالبحرين فيمن ارتد من العرب، الا الجارود بن عمرو بن حنش بن معلى، فانه ثبت على الاسلام ومن معه من قومه، وقام حين بلغته وفاه رسول الله ص وارتداد العرب، فقال: اشهد ان لا اله الا الله، واشهد ان محمدا عبده ورسوله، واكفر من لا يشهد واجتمعت ربيعه بالبحرين وارتدت، فقالوا: نرد الملك في آل المنذر، فملكوا المنذر بن النعمان بن المنذر، وكان يسمى الغرور، وكان يقول حين اسلم واسلم الناس وغلبهم السيف: لست بالغرور، ولكنى المغرور حدثنا عبيد الله بن سعد، قال: أخبرنا عمى، قال: أخبرنا سيف،
تاريخ الطبري، ج3، ص:304
سنه 11 عن اسماعيل بن مسلم، عن عمير بن فلان العبدى، قال: لما مات النبي ص خرج الحطم بن ضبيعه أخو بنى قيس بن ثعلبه فيمن اتبعه من بكر بن وائل على الرده، ومن تأشب اليه من غير المرتدين ممن لم يزل كافرا، حتى نزل القطيف وهجر، واستغوى الخط ومن فيها من الزط والسيابجه، وبعث بعثا الى دارين، فأقاموا له ليجعل عبد القيس بينه وبينهم، وكانوا مخالفين لهم، يمدون المنذر والمسلمين، وارسل الى الغرور بن سويد، أخي النعمان بن المنذر، فبعثه الى جؤاثى، وقال: اثبت، فانى ان ظفرت ملكتك بالبحرين حتى تكون كالنعمان بالحيرة وبعث الى جؤاثى، فحصرهم وألحوا عليهم فاشتد على المحصورين الحصر، وفي المسلمين المحصورين رجل من صالح المسلمين يقال له عبد الله بن حذف، احد بنى ابى بكر بن كلاب، وقد اشتد عليه وعليهم الجوع حتى كادوا ان يهلكوا وقال في ذلك عبد الله بن حذف:
الا ابلغ أبا بكر رسولا وفتيان المدينة أجمعينا
فهل لكم الى قوم كرام قعود في جؤاثى محصرينا!
كان دماءهم في كل فج شعاع الشمس يغشى الناظرينا
توكلنا على الرحمن انا وجدنا الصبر للمتوكلينا
كتب الى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن الصعب بن عطية ابن بلال، عن سهم بن منجاب، عن منجاب بن راشد، قال: بعث ابو بكر العلاء بن الحضرمى على قتال اهل الرده بالبحرين، فلما اقبل إليها، فكان بحيال اليمامه، لحق به ثمامة بن اثال في مسلمه بنى حنيفه
تاريخالطبري، ج3، ص:305
سنه 11 من بنى سحيم ومن اهل القرى من سائر بنى حنيفه، وكان متلددا، وقد الحق عكرمه بعمان ثم مهره، وامر شرحبيل بالمقام حيث انتهى الى ان يأتيه امر ابى بكر، ثم يغاور هو وعمرو بن العاص اهل الرده من قضاعه فاما عمرو بن العاص فكان يغاور سعدا وبليا وامر هذا بكلب ولفها، فلما دنا منا ونحن في عليا البلاد لم يكن احد له فرس من الرباب وعمرو بن تميم الا جنبه، ثم استقبله، فاما بنو حنظله فإنهم قدموا رجلا وأخروا اخرى وكان مالك بن نويره في البطاح ومعه جموع يساجلنا ونساجله.
وكان وكيع بن مالك في القرعاء معه جموع يساجل عمرا وعمرو يساجله، واما سعد بن زيد مناه فإنهم كانوا فرقتين، فاما عوف والأبناء فإنهم أطاعوا الزبرقان بن بدر، فثبتوا على اسلامهم وتموا وذبوا عنه، واما المقاعس والبطون فإنهما اصاخا ولم يتابعا، الا ما كان من قيس بن عاصم، فانه قسم الصدقات التي كانت اجتمعت اليه في المقاعس والبطون حين شخص الزبرقان بصدقات عوف والأبناء، فكانت عوف والأبناء مشاغيل بالمقاعس والبطون فلما راى قيس بن عاصم ما صنعت الرباب وعمرو من تلقى العلاء ندم على ما كان فرط منه، فتلقى العلاء باعداد ما كان قسم من الصدقات، ونزع عن امره الذى كان هم به، واستاق حتى أبلغها اياه، وخرج معه الى قتال اهل البحرين، وقال في ذلك شعرا كما قال الزبرقان في صدقته حين أبلغها أبا بكر، وكان الذى قال الزبرقان في ذلك:
وفيت باذواد الرسول وقد أبت سعاه فلم يردد بعيرا مجيرها
معا ومنعناها من الناس كلهم ترامى الأعادي عندنا ما يضيرها
فأديتها كي لا اخون بذمتي محانيق لم تدرس لركب ظهورها
اردت بها التقوى ومجد حديثها إذا عصبه سامى قبيلى فخورها
وانى لمن حي إذا عد سعيهم يرى الفخر منها حيها وقبورها
تاريخالطبري،ج3،ص:306
سنه 11
اصاغرهم لم يضرعوا وكبارهم رزان مراسيها، عفاف صدورها
ومن رهط كناد توفيت ذمتي ولم يثن سيفي نبحها وهريرها
ولله ملك قد دخلت وفارس طعنت إذا ما الخيل شد مغيرها
ففرجت أولاها بنجلاء ثره بحيث الذى يرجو الحياه يضيرها
ومشهد صدق قد شهدت فلم أكن به خاملا واليوم يثنى مصيرها
ارى رهبه الأعداء منى جراءة ويبكى إذا ما النفس يوحى ضميرها
و قال قيس عند استقبال العلاء بالصدقه:
الا أبلغا عنى قريشا رساله إذا ما أتتها بينات الودائع
حبوت بها في الدهر اعراض منقر وأيأست منها كل اطلس طامع
وجدت ابى والخال كانا بنجوه بقاع فلم يحلل بها من ادافع
فاكرمه العلاء، وخرج مع العلاء من عمرو وسعد الرباب مثل عسكره، وسلك بنا الدهناء، حتى إذا كنا في بحبوحتها والحنانات والعزافات عن يمينه وشماله، واراد الله عز وجل ان يرينا آياته نزل وامر الناس بالنزول، فنفرت الإبل في جوف الليل، فما بقي عندنا بعير ولا زاد ولا مزاد
تاريخ الطبري، ج3، ص:307
سنه 11 ولا بناء الا ذهب عليها في عرض الرمل، وذلك حين نزل الناس، وقبل ان يحطوا، فما علمت جمعا هجم عليهم من الغم ما هجم علينا واوصى بعضنا الى بعض، ونادى منادى العلاء: اجتمعوا، فاجتمعنا اليه، فقال:
ما هذا الذى ظهر فيكم وغلب عليكم؟ فقال الناس: وكيف نلام ونحن ان بلغنا غدا لم تحم شمسه حتى نصير حديثا! فقال: ايها الناس، لا تراعوا، ا لستم مسلمين! ا لستم في سبيل الله! ا لستم انصار الله! قالوا: بلى، قال:
فابشروا، فوالله لا يخذل الله من كان في مثل حالكم ونادى المنادى بصلاة الصبح حين طلع الفجر فصلى بنا، ومنا المتيمم، ومنا من لم يزل على طهوره، فلما قضى صلاته جثا لركبتيه وجثا الناس، فنصب في الدعاء ونصبوا معه، فلمع لهم سراب الشمس، فالتفت الى الصف، فقال: رائد ينظر ما هذا؟ ففعل ثم رجع، فقال: سراب، فاقبل على الدعاء، ثم لمع لهم آخر فكذلك، ثم لمع لهم آخر، فقال: ماء، فقام وقام الناس، فمشينا اليه حتى نزلنا عليه، فشربنا واغتسلنا، فما تعالى النهار حتى اقبلت الإبل تكرد من كل وجه، فأناخت إلينا، فقام كل رجل الى ظهره، فأخذه، فما فقدنا سلكا فارويناها واسقيناها العلل بعد النهل، وتروينا ثم تروحنا- وكان ابو هريرة رفيقي- فلما غبنا عن ذلك المكان، قال لي: كيف علمك بموضع ذلك الماء؟ فقلت: انا من اهدى العرب بهذه البلاد قال: فكن معى حتى تقيمنى عليه، فكررت به، فأتيت به على ذلك المكان بعينه، فإذا هو لا غدير به، ولا اثر للماء، فقلت له: والله لو لا انى لا ارى الغدير لاخبرتك ان هذا هو المكان، وما رايت بهذا المكان ماء ناقعا قبل اليوم، وإذا اداوه مملوءة، فقال: يا أبا سهم، هذا والله المكان،
تاريخ الطبري، ج3، ص:308
سنه 11 ولهذا رجعت ورجعت بك وملات إداوتي ثم وضعتها على شفيره، فقلت:
ان كان منا من المن وكانت آيه عرفتها، وان كان غياثا عرفته، فإذا من من المن، فحمد الله، ثم سرنا حتى ننزل هجر قال: فأرسل العلاء الى الجارود ورجل آخر ان انضما في عبد القيس حتى تنزلا على الحطم مما يليكما، وخرج هو فيمن جاء معه وفيمن قدم عليه، حتى ينزل عليه مما يلى هجر، وتجمع المشركون كلهم الى الحطم الا اهل دارين، وتجمع المسلمون كلهم الى العلاء بن الحضرمى، وخندق المسلمون والمشركون، وكانوا يتراوحون القتال ويرجعون الى خندقهم، فكانوا كذلك شهرا، فبينا الناس ليله إذ سمع المسلمون في عسكر المشركين ضوضاء شديده، كأنها ضوضاء هزيمه او قتال، فقال العلاء: من يأتينا بخبر القوم؟ فقال عبد الله ابن حذف: انا آتيكم بخبر القوم- وكانت أمه عجليه- فخرج حتى إذا دنا من خندقهم اخذوه، فقالوا له: من أنت؟ فانتسب لهم، وجعل ينادى: يا ابجراه! فجاء ابجر بن بجير، فعرفه فقال: ما شانك؟
فقال: لا اضيعن الليلة بين اللهازم! علام اقتل وحولي عساكر من عجل وتيم اللات وقيس وعنزه! ا يتلاعب بي الحطم ونزاع القبائل وأنتم شهود! فتخلصه، وقال: والله انى لأظنك بئس ابن الاخت لاخوالك الليلة! فقال: دعني من هذا وأطعمني، فانى قد مت جوعا فقرب له طعاما، فأكل ثم قال: زودني واحملنى وجوزنى انطلق الى طيتى.
ويقول ذلك لرجل قد غلب عليه الشراب، ففعل وحمله على بعير، وزوده وجوزه، وخرج عبد الله بن حذف حتى دخل عسكر المسلمين، فاخبرهم ان القوم سكارى، فخرج المسلمون عليهم حتى اقتحموا عليهم عسكرهم، فوضعوا السيوف فيهم حيث شاءوا، واقتحموا الخندق هرابا، فمترد، وناج ودهش، ومقتول او ماسور، واستولى المسلمون على ما في العسكر، لم يفلت
تاريخ الطبري، ج3، ص:309
سنه 11 رجل الا بما عليه، فاما ابجر فافلت، واما الحطم فانه بعل ودهش، وطار فؤاده، فقام الى فرسه- والمسلمون خلالهم يجوسونهم- ليركبه، فلما وضع رجله في الركاب انقطع به، فمر به عفيف بن المنذر احد بنى عمرو بن تميم، والحطم يستغيث ويقول: الا رجل من بنى قيس بن ثعلبه يعقلنى! فرفع صوته، فعرف صوته، فقال: ابو ضبيعه! قال: نعم، قال: أعطني رجلك اعقلك، فاعطاه رجله يعقله، فنفحها فأطنها من الفخذ، وتركه، فقال: اجهز على، فقال: انى أحب الا تموت حتى امضك.
- وكان مع عفيف عده من ولد ابيه، فأصيبوا ليلتئذ- وجعل الحطم لا يمر به في الليل احد من المسلمين الا قال: هل لك في الحطم ان تقتله؟ ويقول:
ذاك لمن لا يعرفه، حتى مر به قيس بن عاصم، فقال له ذلك، فمال عليه فقتله، فلما راى فخذه نادره، قال: وا سوأتاه! لو علمت الذى به لم احركه، وخرج المسلمون بعد ما احرزوا الخندق على القوم يطلبونهم، فاتبعوهم، فلحق قيس بن عاصم ابجر- وكان فرس ابجر اقوى من فرس قيس- فلما خشي ان يفوته طعنه في العرقوب فقطع العصب، وسلم النسا، فكانت راده، وقال عفيف بن المنذر:
فان يرقأ العرقوب لا يرقأ النسا وما كل من يهوى بذلك عالم
ا لم تر انا قد فللنا حماتهم باسره عمرو والرباب الأكارم
واسر عفيف بن المنذر الغرور بن سويد، فكلمته الرباب فيه، وكان أبوه ابن اخت التيم، وسألوه ان يجيره، فقال للعلاء: انى قد اجرت هذا، قال: ومن هذا؟ قال: الغرور، قال: أنت غررت هؤلاء، قال: ايها الملك، انى لست بالغرور، ولكنى المغرور، قال:
تاريخ الطبري، ج3، ص:310
سنه 11 اسلم، فاسلم وبقي بهجر، وكان اسمه الغرور، وليس بلقب، وقتل عفيف المنذر بن سويد بن المنذر، أخا الغرور لامه، واصبح العلاء فقسم الانفال، ونفل رجالا من اهل البلاء ثيابا، فكان فيمن نفل عفيف بن المنذر وقيس بن عاصم وثمامة بن اثال، فاما ثمامة فنفل ثيابا فيها خميصه ذات اعلام، كان الحطم يباهى فيها، وباع الثياب وقصد عظم الفلال لدارين، فركبوا فيها السفن، ورجع الآخرون الى بلاد قومهم، فكتب العلاء بن الحضرمى الى من اقام على اسلامه من بكر بن وائل فيهم، وارسل الى عتيبة بن النهاس والى عامر بن عبد الأسود بلزوم ما هم عليه والقعود لأهل الرده بكل سبيل، وامر مسمعا بمبادرتهم، وارسل الى خصفه التميمى والمثنى بن حارثة الشيبانى، فأقاموا لأولئك بالطريق، فمنهم من أناب، فقبلوا منه واشتملوا عليه، ومنهم من ابى ولج فمنع من الرجوع، فرجعوا عودهم على بدئهم، حتى عبروا الى دارين، فجمعهم الله بها، وقال في ذلك رجل من بنى ضبيعه بن عجل، يدعى وهبا، يعير من ارتد من بكر بن وائل:
ا لم تر ان الله يسبك خلقه فيخبث اقوام ويصفو معشر
لحى الله أقواما أصيبوا بخنعه أصابهم زيد الضلال ومعمر!
ولم يزل العلاء مقيما في عسكر المشركين حتى رجعت اليه الكتب من عند من كان كتب اليه من بكر بن وائل، وبلغه عنهم القيام بأمر الله، والغضب لدينه، فلما جاءه عنهم من ذلك ما كان يشتهى، ايقن انه لن يؤتى من خلفه بشيء يكرهه على احد من اهل البحرين، وندب الناس الى دارين، ثم جمعهم فخطبهم، وقال: ان الله قد جمع لكم احزاب الشياطين وشرد الحرب في هذا البحر، وقد أراكم من آياته في البر لتعتبروا بها
تاريخ الطبري، ج3، ص:311
سنه 11 في البحر، فانهضوا الى عدوكم، ثم استعرضوا البحر اليهم، فان الله قد جمعهم، فقالوا: نفعل ولا نهاب والله بعد الدهناء هولا ما بقينا فارتحل وارتحلوا، حتى إذا اتى ساحل البحر اقتحموا على الصاهل، والجامل، والشاحج والناهق، والراكب والراجل، ودعا ودعوا، وكان دعاؤه ودعاؤهم: يا ارحم الراحمين، يا كريم، يا حليم، يا احد، يا صمد يا حي يا محيى الموتى، يا حي يا قيوم، لا اله الا أنت يا ربنا فأجازوا ذلك الخليج باذن الله جميعا يمشون على مثل رمله ميثاء، فوقها ماء يغمر اخفاف الإبل، وان ما بين الساحل ودارين مسيره يوم وليله لسفن البحر في بعض الحالات، فالتقوا بها، واقتتلوا قتالا شديدا، فما تركوا بها مخبرا وسبوا الذراري، واستاقوا الأموال، فبلغ نفل الفارس سته آلاف، والراجل الفين، قطعوا ليلهم وساروا يومهم، فلما فرغوا رجعوا عودهم على بدئهم حتى عبروا، وفي ذلك يقول عفيف بن المنذر:
ا لم تر ان الله ذلل بحره وانزل بالكفار احدى الجلائل!
دعونا الذى شق البحار فجاءنا باعجب من فلق البحار الأوائل
ولما رجع العلاء الى البحرين، وضرب الاسلام فيها بجرانه، وعز الاسلام واهله، وذل الشرك واهله، اقبل الذين في قلوبهم ما فيها على الارجاف، فارجف مرجفون، وقالوا: ها ذاك مفروق، قد جمع رهطه.
شيبان وتغلب والنمر، فقال لهم اقوام من المسلمين: إذا تشغلهم عنا اللهازم- واللهازم يومئذ قد استجمع امرهم على نصر العلاء وطابقوا وقال عبد الله
تاريخ الطبري، ج3، ص:312
سنه 11 ابن حذف في ذلك:
لا توعدونا بمفروق واسرته ان يأتنا يلق فينا سنه الحطم
وان ذا الحى من بكر وان كثروا لامه داخلون النار في امم
فالنخل ظاهره خيل وباطنه خيل تكدس بالفتيان في النعم
واقفل العلاء بن الحضرمى الناس، فرجع الناس الا من أحب المقام، فقفلنا وقفل ثمامة بن اثال، حتى إذا كنا على ماء لبنى قيس بن ثعلبه، فرأوا ثمامة، ورأوا خميصه الحطم عليه دسوا له رجلا، وقالوا: سله كيف صارت له؟ وعن الحطم: ا هو قتله او غيره؟ فأتاه، فسأله عنها، فقال: نفلتها قال: ا أنت قتلت الحطم؟ قال: لا، ولوددت انى كنت قتلته، قال: فما بال هذه الخميصه معك؟ قال: الم اخبرك! فرجع اليهم فاخبرهم، فتجمعوا له، ثم اتوه فاحتوشوه، فقال: ما لكم؟ قالوا:
أنت قاتل الحطم؟ قال: كذبتم، لست بقاتله ولكنى نفلتها، قالوا:
هل ينفل الا القاتل! قال: انها لم تكن عليه، انما وجدت في رحله، قالوا: كذبت فأصابوه.
قال: وكان مع المسلمين راهب في هجر، فاسلم يومئذ فقيل: ما دعاك الى الاسلام؟ قال: ثلاثة أشياء، خشيت ان يمسخنى الله بعدها ان انا لم افعل:
فيض في الرمال، وتمهيد اثباج البحار، ودعاء سمعته في عسكرهم في الهواء من السحر قالوا: وما هو؟ قال: اللهم أنت الرحمن الرحيم، لا اله غيرك، والبديع ليس قبلك شيء، والدائم غير الغافل، والحى الذى لا يموت، وخالق ما يرى وما لا يرى، وكل يوم أنت في شان، وعلمت اللهم كل شيء بغير تعلم، فعلمت ان القوم لم يعانوا بالملائكة الا وهم على امر الله.
فلقد كان اصحاب رسول الله ص يسمعون من ذلك الهجرى بعد
تاريخ الطبري، ج3، ص:313
سنه 11 وكتب العلاء الى ابى بكر: اما بعد، فان الله تبارك وتعالى فجر لنا الدهناء فيضا لا ترى غواربه، وأرانا آيه وعبره بعد غم وكرب، لنحمد الله ونمجده، فادع الله واستنصره لجنوده واعوان دينه.
فحمد ابو بكر الله ودعاه، وقال: ما زالت العرب فيما تحدث عن بلدانها يقولون: ان لقمان حين سئل عن الدهناء: ايحتفرونها او يدعونها؟
نهاهم، وقال: لا تبلغها الأرشية، ولم تقر العيون، وان شان هذا الفيض من عظيم الآيات، وما سمعنا به في أمه قبلها اللهم اخلف محمدا ص فينا.
ثم كتب اليه العلاء بهزيمه اهل الخندق وقتل الحطم، قتله زيد ومعمر:
اما بعد، فان الله تبارك اسمه سلب عدونا عقولهم، واذهب ريحهم بشراب أصابوه من النهار، فاقتحمنا عليهم خندقهم، فوجدناهم سكارى، فقتلناهم الا الشريد، وقد قتل الله الحطم.
فكتب اليه ابو بكر: اما بعد، فان بلغك عن بنى شيبان بن ثعلبه تمام على ما بلغك، وخاض فيه المرجفون، فابعث اليهم جندا فاوطئهم وشرد بهم من خلفهم فلم يجتمعوا، ولم يصر ذلك من ارجافهم الى شيء.
تم ارسال رسالتك بنجاح