لدراسة التاريخ أهمية كبيرة خصوصاً إذا كان مضمونه يحمل قيماً ومضامين عالية، ويروي تجارب نافعة، وقصصاً فيها العبرة والدروس. وتشتدّ الأهمية إذا كان ذلك التاريخ مرتبطاً بالعقيدة والدين. وعندما يأتي الحديث عن تاريخ التشيع والشيعة في البحرين والقطيف والأحساء، فلأنّه تاريخ مشرق ولكنه مهمل بعض الشيء، وتزداد أهمية بحث هذا التاريخ بسبب وجود محاولات كثيرة جادّة ومستمرة وبأشكال مختلفة لتغيـير هذه الحقيقة الناصعة وإنكار تاريخ التشيع في البحرين وجذوره الضـاربة في الأرض، ولهـذه المحـاولات أهـداف مخـتلفـة كلها تصـبّ فـي جهات معينة لا تريد الخير لهذا الوطن الإسلامي المهم.
وقبل سنوات قصيرة ما كان أحدٌ يجرؤ على إنكار تاريخ الشيعة في البحرين والقطيف والأحساء، وأنّهم هم الأصل، بل كان الأمر من المسلمات، ولكن برزت في الآونة الأخيرة أصوات نشاز تنكر هذه الحقيقة. ونريد هنا أن نسلِّط الضوء على هذا التاريخ الذي يفخر به أهله الطيبون، ونثبت أصالة التشيع في هذه الأرض، مع الاحترام الكبير لأصحاب المذاهب الأخرى.
وتجدر الإشارة إلى أنَّ الكلام أعمُّ من البحرين الحالية (جزيرة أوال)، بل يشمل البحرين الكبرى التي تمتدّ من حدود البصرة إلى عمان، ولا يضرّ ذلك حيث إن ما يثبت للبحرين الكبرى يشمل جميع المناطق خصوصا أنّ المركز في ذلك الوقت كما يفهم من بعض المصادر هو لهجر الواقعة في الإحساء وهي تشترك مع البحرين الحاليّة في المذهب والتاريخ.
وسيتركز البحث على تاريخ الشيعة في عهد الرسالة المحمدية المباركة، إلى عهد أمير المؤمنين (عليه السلام)، مع شيء يسير من تاريخهم بعد عهد الأمير (عليه السلام).
ثمّ إنه قد ذكر الحاكم النيسابوري في المستدرك "عن جرير أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الله عزَّ وجلَّ أوحى إليَّ: أي هؤلاء البلاد الثلاث نزلت فهي دار هجرتك؛ المدينة أو البحرين أو قنسرين»، هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"(1). دخول أهل البحرين في الإسلام من المتسالم عليه عند المؤرخين أنَّ أهل البحرين دخلوا الإسلام بدون قتال ولا حرب، بل دخلوا طوعاً لقناعة راسخة بأحقيّة هذا الدين العظيم، وإليك بعض الشواهد على ذلك وبعض ما جرى في زمن النبي (صلَّى الله عليه وآله): روى ابن سعد في الطبقات: بسند إلى عبد الحميد بن جعفر عن أبيه قالا: كتب رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى أهل البحرين أن يقدم عليه عشرون رجلاً منهم، فقدم عليه عشرون رجلاً رأسهم عبد الله بن عوف الأشجّ وفيهم الجارود ومنقذ بن حيان وهو ابن أخت الأشج، وكان قدومهم عام الفتح، فقيل: يا رسول الله، هؤلاء وفد عبد القيس، قال: «مرحبا بهم، نعم القوم عبد القيس»، قال: ونظر رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى الأفق صبيحة ليلة قدموا وقال: «ليأتينّ ركبٌ من المشركين لم يكرهوا على الإسلام، قد أنضوا الركاب وأفنوا الزاد، بصاحبهم علامة، اللهم اغفر لعبد القيس أتوني لا يسألوني مالاً، هم خير أهل المشرق»، قال: فجاؤوا في ثيابهم ورسول الله صلّى الله عليه وسلم في المسجد، فسلموا عليه، وسألهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم أيُّكم عبد الله الأشج؟
قال: أنا يا رسول الله، وكان رجلاً دميماً، فنظر إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: «إنّه لا يستسقى في مسوك الرجال، إنما يحتاج من الرجل إلى أصغريه لسانه وقلبه»، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «فيك خصلتان يحبهما الله»، فقال عبد الله: وما هما، قال: «الحلم والأناة» قال: أشيء حدث أم جبلت عليه، قال: «بل جبلت عليه»، وكان الجارود نصرانياً فدعاه رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى الإسلام فأسلم فحسن إسلامه، وأنزل وفد عبد القيس في دار رملة بنت الحارث، وأجرى عليهم ضيافة، وأقاموا عشرة أيام، وكان عبد الله الأشج يسائل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الفقه والقرآن، وأمر لهم بجوائز وفضّل عليهم عبد الله؛ فأعطاه اثنتي عشرة أوقية ونشأ، ومسح رسول الله صلّى الله عليه وسلم وجه منقذ بن حيان.(2).
ويجدر الالتفات في هذه الرواية إلى تفضيل الأشج من قبل النبي (صلَّى الله عليه وآله)، ولعله لوجود تلك الخصلتين اللتين يحبّهما الله تعالى، وربما لكون الأشج كما تقول الرواية يسائل رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) عن الفقه والقرآن، يعني كونه طالب علم. وينقل ابن حجر في الإصابة رواية أخرى تتعلق بالأشج ولكن باسم المنذر فيقول: "وروى ابن شاهين من طريق حسين بن محمد حدثنا أبي حدثنا جعفر بن الحكم العبدي عن صحار بن العباس ومزيدة بن مالك بن نفر من عبد القيس قالوا: كان الأشج أشج عبد القيس -واسمه المنذر بن عائذ بن الحارث بن المنذر بن النعمان العصري- صديقاً لراهب ينـزل بدارين فكان يلقاه في كلِّ عام فلقيه عاماً بالزارة، فأخبر الأشج أنّ نبياً يخرج بمكة يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة بين كتفيه علامة يظهر على الأديان، ثمّ مات الراهب فبعث الأشج ابنَ أختٍ له من بني عامر بن عصر يقال له عمرو بن عبد القيس وهو على ابنته أمامة بنت الأشج، وبعث معه تمراً ليبيعه وملاحف، وضمّ إليه دليلاً يقال له الأريقط، فأتى مكة عام الهجرة، - فذكر القصة في لقياه النبي صلّى الله عليه وسلم وصحة العلامات وإسلامه وأنّه علمه الحمد واقرأ باسم ربك، وقال له: «ادعُ خالك إلى الإسلام»، فرجع وأقام دليله بمكة، فدخل عمرو منـزله، فسلم فخرجت امرأته إلى أبيها، فقالت له: إنّ زوجي صبأ فانتهرها، وجاء الأشج فأخبره الخبر فأسلم الأشج وكتم الإسلام حيناً، ثمّ خرج في ستة عشر رجلاً من أهل هجر، منهم من بني عصر عمرو بن المرجوم بن عمرو... فقدموا المدينة، فخرج النبي صلّى الله عليه وسلم في الليلة التي قدموا في صبحها، فقال: «ليأتيَنَّ ركب من قبل المشرق ولم يكرهوا على الإسلام لصاحبهم علامة» فقدموا فقال: «اللهم اغفر لعبد القيس»، وكان قدومهم عام الفتح وشخص النبي صلّى الله عليه وسلم إلى مكة ففتحها ثم رجع إلى المدينة فكتب عهداً للعلاء بن الحضرمي واستعمله على البحرين وكتب معه إلى المنذر بن ساوى فقدموا فبنوا البيعة (أي الكنيسة) مسجدا".(3).
وهذه الرواية فيها بعض الأمور المهمة: منها: قضية الراهب الذي كان عنده علم بصفات النبي (صلَّى الله عليه وآله) وأحواله وأنه يبعث في مكة، ويفهم أنه مات قبل بعثة النبي (صلَّى الله عليه وآله)، وربما يكون هذا الراهب هو نفس القسّ بن ساعدة الآتي ذكره. ومنها: أنَّ الأشج بعث ابن أخته عام الهجرة، وأسلم حينها، ولما رجع واستنكرت زوجته ووصفته بالصابئ انتهرها أبوها الأشج، وكأنه مصدق بالنبي (صلَّى الله عليه وآله) قبل أن يسمع الخبر من ابن أخته، ولذلك بمجرد إخباره أسلم، وهذا الحدث بدايات الهجرة، نعم دخول الأكثر في الإسلام لعله كان عام الفتح. معجزة النبي (صلَّى الله عليه وآله) معهم: في كتاب قرب الإسناد: "أنه أتاه وفد عبد القيس فدخلوا عليه، فلما أدركوا حاجتهم عنده قال: «ائتوني بتمر أهلكم مما معكم»، فأتاه كل رجل منهم بنوع منه، فقال النبي (صلَّى الله عليه وآله): «هذا يسمى كذا، وهذا يسمى كذا»، فقالوا: أنت أعلم بتمر أرضنا، فوصف لهم أرضهم، فقالوا: أدخلتها؟ قال: «لا، ولكن فصح لي فنظرت إليها». فقام رجل منهم فقال: يا رسول الله، هذا خالي وبه خبل، فأخذ بردائه ثم قال: «اخرج عدو الله» - ثلاثاً - ثم أرسله، فبرأ. وأتوه بشاة هرمة، فأخذ أحد أذنيها بين أصابعه، فصار ميسماً، ثم قال: «خذوها فإن هذا السمة في آذان ما تلد إلى يوم القيامة». فهي توالد وتلك في آذانها معروفة غير مجهولة".(4).
ومبادرتهم -وهم للتو دخلوا في الإسلام- إلى طلب الشفاء من النبي (صلَّى الله عليه وآله) عن طريق المعجزة يدلّ على صدق إيمانهم بالنبي (صلَّى الله عليه وآله). تقبيل يد النبي (صلَّى الله عليه وآله) ورجله: وفي حادثة أخرى في سنن ابن داود "حدثنا محمد بن عيسى بن الطباع ثنا مطر بن عبد الرحمن الأعنق، حدثتني أم أبان بنت الوازع بن زارع، عن جدها زارع وكان في وفد عبد القيس، قال: لما قدمنا المدينة فجعلنا نتبادر من رواحلنا، فنقبل يد النبي صلّى الله عليه وسلم ورجله، قال: وانتظر المنذر الأشج حتى أتى عيبته فلبس ثوبيه، ثم أتى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال له: «إن فيك خلتين يحبهما الله الحلم والأناة» قال: يا رسول الله أنا أتخلق بهما أم الله جبلني عليهما؟
قال: «بل الله جبلك عليهما» قال: الحمد لله الذي جبلني على خلتين يحبهما الله ورسوله.(5). وفي لفظ آخر: "بينما النبي صلّى الله عليه وسلم يحدث أصحابه إذ قال لهم: «سيطلع عليكم من ههنا ركب هم خير أهل المشرق»،... حتى أتوا النبي صلّى الله عليه وسلم فرموا بأنفسهم عن ركائبهم فأخذوا يده فقبلوها".(6).
الملفت في هذه الرواية هو دلالتها على عمق شوقهم إلى رؤية النبي (صلَّى الله عليه وآله)، والظاهر أنها المرة الأولى التي يرون فيها وجهه المقدس، فقد ألقوا بأنفسهم من رواحلهم ولم ينزلوا هوناً، ثم تقبيلهم ليد النبي ورجله (صلَّى الله عليه وآله).
قصة القس بن ساعدة رواها مجموعة من المؤرخين من الفريقين، مع تفاوت في تفاصيلها، بين موجِّز ومفصِّل، ونحن ننقل بعض أجزاء الرواية المفصِّلة وهي طويلة ثم نشير إلى من نقل بعضها، والهدف من نقلها (رغم طولها) بيان أنّ جذور التشيع الذي هو محل البحث كان موجوداً حتى قبل الإسلام بناءً على صحة هذه الرواية المفصّلة، فإليك الرواية:
في مقتضب الأثر لأحمد بن عياش الجوهري(م401) وهو ينقلها عن طريق العامة كما يصرح قال: "ومن أتقن الأخبار المأثورة وغريبها وعجيبها ومن المصون المكنون في أعداد الأئمة وأسمائهم من طريق العامة مرفوعاً وهو خبر الجارود بن المنذر، وأخباره عن قس بن ساعدة: ما حدثنا به أبو جعفر محمد بن لاحق بن سابق بن قرين الأنباري، قال: حدثني جدي أبو النصر سابق بن قرين، في سنة ثمان وسبعين ومأتين بالأنبار في دارنا، قال: حدثني أبو المنذر هشام بن محمد بن السايب الكلبي، قال: حدثني أبي عن الشرقي بن القطامي، عن تميم بن وهلة المري قال: حدثني الجارود بن المنذر العبدي وكان نصرانياً فأسلم عام الحديبية وحسن إسلامه وكان قارياً للكتب عالماً بتأويلها على وجه الدهر وسالف العصر بصيراً بالفلسفة والطب ذا رأي أصيل ووجه جميل، أنشأ يحدثنا في إمارة عمر بن الخطاب قال: وفدت على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وسلم في رجال من عبد القيس ذوي أحلام وأسنان، وفصاحة وبيان، وحجة وبرهان، فلمّا بصروا به (صلَّى الله عليه وآله) راعهم منظره ومحضره، وأفحموا عن بيانهم واعتراهم العرواء في أبدانهم! فقال زعيم القوم لي: دونك من أقمت(أممت) بنا أممه فما نستطيع أن نكلّمه فاستقدمت دونهم إليه فوقفت بين يديه (صلَّى الله عليه وآله) وقلت: السلام عليك يا نبي الله، بأبى أنت وأمي ثم أنشأت أقول: يا نبي الهدى أتتك رجال قطعت قردداً وآلا فآلا إلى أن يقول: ثم لما رأتك أسن مرأى أفحمت عنك هيبة وجلالا تتقى شر بأس يوم عصيب هائل أو جل القلوب وهالا ونداء بمحشر الناس طراً وحساباً لمن تمادى ضلالا نحو نور من الإله وبرهان وبرّ ونعمة لن تنالا وأمان منه لدى الحشر والنشر إذ الخلق لا يطيق السؤالا فلك الحوض والشفاعة والكوثر والفضل إذ ينصّ السؤالا خصك الله يا ابن آمنة الخير إذا ما تلت سجال سجالا أنبأ الأولون بإسمك فينا وبأسماء بعده تتلالا قال: فأقبل عليَّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) بصفحة وجهه المبارك شمت منه ضياء لامعاً ساطعاً كوميض البرق فقال: «يا جارود لقد تأّخر بك وبقومك الموعد»، وقد كنت وعدته قبل عامي ذلك أن أفد إليه بقومي، فلم آته وأتيته في عام الحديبية... قال( (صلَّى الله عليه وآله)): «فدِن الآن بالوحدانية ودع عنك النصرانية»، قلت: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنك عبده ورسوله، ولقد أسلمت على علم بك وبناء فيك علمته من قبل، فتبسم (صلَّى الله عليه وآله) كأنَّه علم ما أردته من الإنباء فيه، فأقبل عليَّ وعلى قومي فقال: «أفيكم من يعرف قس بن ساعدة الأيادي؟»
قلت: يا رسول الله كلنا نعرفه غير أني من بينهم عارف بخبره واقف على أثره، كان قس بن ساعدة يا رسول الله سبطاً من أسباط العرب عمّر خمسمائة عام تقفر منها في البراري خمسة أعمار يضج بالتسبيح على منهاج المسيح، لا يقرّه قرار ولا يكنه جدار، ولا يستمتع منه جار، لا يفتر من الرهبانية ويدين الله بالوحدانية يلبس المسوح، ويتحسى في سياحته بيض النعام، ويعتبر بالنور والظلام يبصر ويتفكر فيختبر، تضرب بحكمته الأمثال، أدرك رأس الحواريين شمعون وأدرك لوقا ويوحنا وأمثالهم ففقه كلامهم ونقل منهم... ثمّ أقبلت على أصحابه فقلت: على علم به آمنتم به قبل مبعثه ما آمنت به أنا، فنصت إليّ رجل منهم وأشارت(7) إليه وقالوا: هذا صاحبه وطالبه على وجه الدهر وسالف العصر، وليس فينا خير منه ولا أفضل، فبصرت به أغر أبلج، قد وفدته الحكمة أعرف ذلك في أسارير وجهه، وإن لم أحظ علماً بكنهه قلت: ومن هو؟ قالوا: هذا سلمان الفارسي ذو البرهان العظيم، والشأن القديم، قال سلمان: عرفته يا أخا عبد القيس من قبل إتيانه، فأقبلتُ على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وهو يتلألأ ويشرق وجهه نوراً و سروراً، فقلت: يا رسول الله إنّ قساً كان ينتظر زمانك ويتوكف إبانك، ويهتف باسمك واسم أبيك وأمك، وبأسماء لست أصيبها معك ولا أراها فيمن اتبعك، قال سلمان: فأخبرنا فأنشأت أحدثهم ورسول الله (صلَّى الله عليه وآله) يسمع والقوم سامعون واعون، قلت: يا رسول الله لقد شهدت قساً خرج من ناد من أندية أيد، إلى صحصح ذي قتاد وصمرة وعتاد، وهو مشتمل بنجاد، فوقف في أضحيان ليل كالشمس، رافعاً إلى السماء وجهه وإصبعه، فدنوت منه وسمعته يقول: اللهم ربّ هذه السبعة الأرقعة، والأرضين الممرعة، وبمحمد والثلاثة المحامدة معه، والعليين الأربعة، وسبطيه النبعة، والأرفعة الفرعة، والسري اللامعة، وسمي الكليم الضرعة، والحسن ذي الرفعة، أولئك النقباء الشفعة، والطريق المهيعة، درسة الإنجيل وحفظة التنزيل، على عدد النقباء من بني إسرائيل، محاة الأضاليل ونفاة الأباطيل، الصادقوا القيل، عليهم تقوم الساعة وبهم تنال الشفاعة، ولهم من الله تعالى فرض الطاعة، ثم قال: اللهم ليتني مدركهم ولو بعد لأيٍ من عمري ومحياي، ثم أنشأ يقول... ثم آب يكفكف دمعه ويرن رنين البكرة، وقد برئت ببراة وهو يقول: أقسم قسٌ قسما ليس به مكتتما لو عاش ألفي عمر لم يلق منها سأما حتى يلاقي أحمد والنقباء الحكما هم أوصياء أحمد أكرم من تحت السما يعمى العباد عنهم وهم جلاء للعمى لست بناس ذكرهم حتى أحل الرجما ثم قلت: يا رسول الله أنبئني أنبأك الله بخبر عن هذه الأسماء التي لم نشهدها وأشهدنا قس ذكرها؟ فقال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): «يا جارود ليلة أسري بي إلى السماء أوحى الله (عزَّ وجلَّ) إليّ أن سل من أرسلنا من قبلك من رسلنا على ما بعثوا؟ فقلت: على ما بعثتم؟ فقالوا: على نبوتك وولاية علي بن أبي طالب والأئمة منكما، ثم أوحي إليَّ أن التفت عن يمين العرش، فالتفت فإذا علي والحسن، والحسين، وعلي بن الحسين، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، وموسى بن جعفر، وعلي بن موسى، ومحمد بن علي، وعلي بن محمد، والحسن بن علي، والمهدي في ضحضاح من نور يصلون، فقال لي الرب تعالى: هؤلاء الحجج لأوليائي وهذا المنتقم من أعدائي»، قال الجارود: فقال لي سلمان: يا جارود هؤلاء المذكورون في التوراة والإنجيل والزبور كذلك، فانصرفت بقومي وقلت في وجهتي إلى قومي: أتيتك يا ابن آمنة الرسولا لكي بك اهتدى النهج السبيلا فقلت وكان قولك قول حق وصدق ما بدا لك أن تقولا وبصّرت العمى من عبد قيس وكل كان من عمه ضليلا وأنبئناك عن قس الأيادي مقالاً فيك ظلت به جديلا وأسماء عمت عنا فآلت إلى علم وكنت به جهولا"(8) ملاحظات مهمة على هذه الرواية التي تعتبر من الكنوز الثمينة: أولا: المنذر نقل هذه الحادثة التي تحتوي على إمامة المعصومين (عليهم السلام) في زمن عمر بن الخطاب، وهذا له دلالاته. ثانياً: عظمة النبي (صلَّى الله عليه وآله) في أعين وفد عبد القيس حيث أنه: "لمّا بصروا به (صلَّى الله عليه وآله) راعهم منظره ومحضره، وأفحموا عن بيانهم واعتراهم العرواء في أبدانهم"، وهذا تقدم في الرواية السابقة، وتكرار قول المنذر "بأبي أنت وأمي". ثالثاً: في شعر المنذر في بداية لقائه هذا بالنبي (صلَّى الله عليه وآله) وقبل الحوار والحديث ما يدل على اعتقاده بالشفاعة والكوثر والحوض وهي تفاصيل تحتاج إلى سؤال، فيقول: فلك الحوض والشفاعة والكوثر والفضل إذ ينص السؤالا ولا عجب من علم المنذر بذلك، وقد أخذ ذلك من قس بن ساعدة، فهو يقول في نفس الأبيات: أنبأ الأولون باسمك فينا وبأسماء بعده تتلالا ويقول أيضاً: "ولقد أسلمت على علم بك وبناء فيك علمته من قبل"، وخطابه لأصحاب النبي (صلَّى الله عليه وآله): "على علم به آمنتم به قبل مبعثه ما آمنت به أنا؟". رابعاً: يفهم من أكثر من مورد في الرواية أن الهدف من هذا اللقاء بالنبي (صلَّى الله عليه وآله) بمحضر الأصحاب، وكذلك نقل المنذر للرواية في زمن عمر بيان حقيقة الإمامة، فتارة يقول المنذر: "فتبسم (صلَّى الله عليه وآله) وسلم كأنَّه علم ما أردته من الإنباء فيه، فأقبل عليَّ وعلى قومي فقال: «أفيكم من يعرف قس بن ساعدة الأيادي؟»، وقول سلمان (وهو العالم بحقائق الأمور) للمنذر: "عرفته (أي عرفت النبي صلَّى الله عليه وآله) يا أخا عبد القيس من قبل إتيانه"، وكان وجه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) حينها يتلألأ ويشرق نوراً أو سرورا، وقول المنذر: "يا رسول الله إن قساً كان ينتظر زمانك ويتوكف إبانك، ويهتف بإسمك واسم أبيك وأمك، وبأسماء لست أصيبها معك ولا أراها فيمن اتبعك"، قال سلمان: فأخبرنا. وربما منذ ذلك اليوم أو قبل ذلك نشأت علاقة بين سلمان والمنذر. ولنترك القارئ ليتأمل أكثر في هذه الرواية المليئة بالحقائق المهمة. والمهم أن هذه الرواية نقلها كثير من العامة وبطرق مختلفة، نعم لم ينقلوا المقاطع التي تتعلق بذكر الأئمة (عليهم السلام)، وبعضهم أشار إلى القصة مختصِراً جداً، وبعضهم نقل كثيراً من الأبيات التي نقلناها عن الجوهري بل بعض الألفاظ، وبعضهم زاد فيها أموراً غير مذكورة في هذا النقل، وقد ذكر ابن كثير هذه القصة بطرق متعددة، ومضامين مختلفة، وفي بعضها كثير مما نقلناه ثم قال: "وأصله مشهور وهذه الطرق على ضعفها كالمتعاضدة على إثبات أصل القصة".(9) بذور التشيع لأهل البحرين: ومما يتعلق بتشيع أهل البحرين زمن النبي (صلَّى الله عليه وآله)، أو ما يذكره البعض من أسباب ترسخ التشيع عند أهل البحرين، هو تولي أبان سعيد بن العاص أمارة البحرين في عهد النبي (صلَّى الله عليه وآله) وهو من المحبين لأمير المؤمنين (عليه السلام)، وقد نقل ابن سعد في طبقاته أنَّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): "قد كتب إلى العلاء بن الحضرمي أن يقدم عليه بعشرين رجلاً من عبد القيس فقدم عليهم منهم بعشرين رجلاً رأسهم عبد الله بن عوف الأشج واستخلف العلاءُ على البحرين المنذرَ بن ساوى، فشكا الوفدُ العلاءَ بن الحضرمي فعزله رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وولّى أبان بن سعيد بن العاص، وقال له: «استوص بعبد القيس خيراً، وأكرم سراتهم، قال: فلم يزل أبان بن سعيد عاملاً على البحرين حتى قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وارتدّ ربيعة بالبحرين، فأقبل أبان بن سعيد إلى المدينة وترك عمله، فأراد أبو بكر أنْ يردّه إلى البحرين فأبى، وقال: لا أعمل لأحد بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأجمع أبو بكر بعثة العلاء بن الحضرمي»".(10) ونجد في هذا النص أن أهل البحرين شكوا العلاء ولم يقبلوه، وقبلوا بأبان، وهو بدوره لم يقبل أن يكون والياً لأبي بكر. وأرجع العلاء، وبقي العلاء والياً على البحرين حتى خلافة عمر وتوفي فيها.(11).
تم ارسال رسالتك بنجاح