السعودية... محطات في الإسلام السياسي الشيعي
على الرغم من أن تاريخ التشيع في الجزيرة العربية يعود إلى القرن الإسلامي الأول، إلا أن الإسلام السياسي الشيعي في المملكة العربية السعودية لم يتبلور إلا أواسط سبعينيات القرن الماضي (1975)، فقد تم تشكيل أول حركة سياسية إصلاحية ذات جذور إسلامية، تدرجت في العمل بشكل مرحلي بدأ من المطالبة بحقوق الشيعة والاعتراف بهويتهم المذهبية والتوعية الثقافية النهضوية، ومرورا بمناهضة التمييز الطائفي الذي يتعرضون إليه لتتم مساواتهم مع نظرائهم في الوطن، ومن ثم المطالبة بحزمة من الإصلاحات السياسية والاجتماعية والاقتصادية ذات الطابع الوطني، مع شركائهم الإصلاحيين في الوطن.
يشكل السكان الشيعة في المملكة البالغ عددهم قرابة المليونين نسمة، ما بين 10 - 15 بالمائة من إجمالي عدد السكان في العربية السعودية- مع ذلك لا توجد أرقام يمكن التعويل عليها في ما يتعلق بالأقليات- ويعيش معظمهم في المنطقة الشرقية، التي يهيمنون عليها ديموغرافياّ حيث توجد أكبر حقول النفط ومصافي تكرير النفط الغنية. واتجه عدد منهم للإقامة في الدمام عاصمة المنطقة الشرقية وأكبر مدنها، أما الغالبية الساحقة منهم فتعيش في الأرياف والقرى ضمن واحتين كبيرتين، القطيف والاحساء،كما توجد تجمعات شيعية في مكة والمدينة إضافة إلى أتباع المذهب الاسماعيلي في منطقة نجران النائية على الحدود اليمنية.
ويقدر بعض المواطنين الشيعة في السعودية أن عدد سكان المنطقة الشرقية يفوق نصف المليون نسمة، في حين يقدر البعض عدد الشيعة في السعودية بثلاثة ملايين ونصف المليون .ولكن نظرا لغياب الإحصاءات الدقيقة والحديثة عن عدد الشيعة الحقيقي في السعودية هناك تضارب في التقديرات.
ومنذ القرن الرابع عشر وحتى مطلع القرن العشرين، وقع الشيعة في الجزيرة العربية فعليا تحت هيمنة خارجية مستمرة باستثناء ثلاثة أرباع القرن السادس عشر أبان الوجود البرتغالي بالمنطقة، ما يعني بطبيعة الحال الوقوع باستمرار تحت هيمنة سنية دخيلة. ظل معها التشيع مع ذلك القوة الروحية السائدة.
في العام 1913 استولى ابن سعود على المنطقة الشرقية منتزعا السلطة من حكامها العثمانيين، ليضم المنطقة إلى ما سيعرف لاحقا بالمملكة العربية السعودية. وبدافع من رغبات اقتصادية وسياسية بالدرجة الأساس اعتمد ابن سعود في تقوية سلطته وبشكل كبير على «الإخوان» المتشددين الدينيين المتحمسين والمقاتلين القبليين، وجوهر عقيدة «الإخوان» كان الدعوة للجهاد، خصوصاً ضد الكفار والمرتدين، والذين من ضمنهم وأبرزهم الشيعة، ولقد مارس «الإخوان» ضغوطا كبيرة على الملك القادم، عبد العزيز، للعمل على إجبار الشيعة على تغيير عقائدهم الدينية بالقوة أو قتلهم، وكان رفض عبد العزيز هذا واحدا من أسباب ثورة «الإخوان» عليه في 1926 والتي سحقها ابن سعود في نهاية الأمر. ومع ذلك اتجه الإخوان لأخذ زمام المبادرة بأيديهم والشروع بقتل الشيعة بأعداد كبيرة وإن لم تكن أرقامها متوفرة.
ومنذ تأسيسها في العام 1932 سعت المملكة بكل السبل لتهدئة قلق الأقلية الشيعية، وبتشجيع من الحكام الجدد تدفق على المنطقة الشرقية الآلاف من المستوطنين السُنة وأصحاب المطامح التجارية من نجد والقصيم، وساعد ذلك في قيام مدن ومراكز تجارية جديدة نادرا ما أفادت الشيعة. وقوض هذا التدفق التجارة القديمة ومنظومة الزراعة التي حافظت تقليديا وباستمرار على الاقتصاد والمجتمع المحلي. والأهم من ذلك هو تجاهل المستوطنين السنة والتجار الزائرين لرجال الأعمال المحليين الشيعة، مقتصرين بدلا عن ذلك في تبادلهم التجاري على نظرائهم العقائديين من المنطقة الوسطى والغربية.
كانت الأقلية الشيعية في السعودية هدفا للتحريض الطائفي منذ تأسيس المملكة عام 1932؛ وتعد معضلة التمييز الطائفي من اكبر المشاكل التي يعاني منها الشيعة في المملكة، لذلك ظل الشيعة ، وعلى مدى تاريخ البلاد، مهمشين و غير فاعلين، إلى أن حفزت أحداث 1979 في الجارة إيران الزعماء الشيعة في السعودية واستجابة لمشاعر الاضطهاد الديني لتحريك الشباب تحت شعار التحدي المباشر للنظام، لتنطلق بذلك الشرارة الأولى للعصيان المدني الشامل. في مرحلة استمرت أقل من عقد من الزمان، ونتيجة للرد الشرس للدولة ظلت أحداثها باقية في وجدان الذاكرة الجماعية.
ويغلب على المواطنين الشيعة في السعودية الاتجاه التقليدي المحافظ، في حين أن أصحاب الميول السياسية والاهتمام بالشأن العام لا يشكلون إلا نسبة ضئيلة جدا من مجموع الشيعة في المملكة، ولذلك صار التركيز بصورة أكبر على كل ما يرتبط بحماية عقائدهم وحفظ هويتهم المذهبية، تبلور ذلك في محافظة رجال الدين وأنصارهم باستمرار على مؤسسات دينية مهمة، كالمساجد والحسينيات، وحتى مجيء الحكم السعودي واظب الشيعة على إقامة شعائر عاشوراء السنوية بحرية عبر مواكب العزاء العامة في ذكرى استشهاد الإمام الحسين، وعلى غرار ذلك وحتى منتصف القرن العشرين كانوا يتابعون دراساتهم الدينية في الحوزات المحلية تحت إشراف رجال الدين الكبار وبدعم من أموال الخمس المحلية. ونظرا لقلة المنشغلين بالشأن السياسي، لم يجر التركيز كثيرا على الجوانب ذات البعد السياسي والوطني إلا في الثلاثة العقود الأخيرة. وظلت الروابط بالمجتمعات الشيعية في الخارج من خلال السفر كطلاب علوم دينية وكعلماء يتطلعون لمواصلة دراساتهم الدينية. وبالنظر لمدى الروابط القائمة مع العراق كان يطلق على الحوزة القطيفية بالنجف الصغرى حتى الأربعينات.
في الوقت الراهن لا يتبع الشيعة الإمامية في السعودية، مرجعية دينية واحدة؛ فمنهم من يقلد آية الله علي السيستاني في العراق، ومنهم من يقلد آية الله صادق الشيرازي في ُقم، ومنهم من يقلد المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية آية الله علي خامنئي، ومنهم من يقلد آية الله محمد تقي المدرسي في كربلاء، أو غيرهم من فقهاء الشيعة.
وتتسم العلاقة بين الشيعة والسلطة في المملكة في معظم الفترات بالقطيعة والتوجس، بل هي في حالة توتر دائم. وقد شهدت العلاقة المتبادلة في العقود الثلاثة والنصف الماضية، رغم الجهود التي بذلت مؤخرا لترميمها، شد وتصعيد بين الطرفين بسبب مجموعة من الاحداث، كان أبرزها ثلاثة:
1-الانتفاضة الأولى (انتفاضة محرم 1400هـ)، فقد قام الشيعة المقيمون في المنطقة الشرقية بانتفاضة في شهر محرم الحرام 1979، بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران. والانتفاضة هي عبارة مجموعة مواجهات حدثت بين أبناء محافظة القطيف وقراها والاحساء وبين قوات الحرس الوطني السعودي، بدأت الأحداث في اليوم السادس من محرم الموافق 25 نوفمبر وانتهت في اليوم العاشر من محرم الموافق29 نوفمبر، وانتهت الانتفاضة بقتل أكثر من 20 متظاهراً، وبقمع المطالبات التي برزت آنذاك، ومن ثم إعادة السيطرة على المنطقة. وكانت هذه الأحداث متزامنة مع حادثة جهيمان الشهيرة(الحرم المكي.
2- أحداث البقيع العام 2009، وهي عبارة عن مواجهات حدثت بين20 و24 فبراير، في المدينة المنورة بين زوار محتجين شيعة وقوات الأمن السعودية ومن بينهم رجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أمام مقبرة البقيع، بسبب تصوير أحد رجال الهيئة للزائرات الشيعيات. وفسر الكثير من المراقبين هذا الحدث، على انه نتيجة للاحتقان الذي يعيشه الشيعية في السعودية، بسبب ما يتعرضون له من حرمان وتهميش وتضييق أثناء ممارستهم الدينية، خصوصا الطقوس المرتبطة بزيارة رموزهم الدينية.أعقب هذا الحدث سيل من التصريحات للقيادات الشيعية منددة بطريقة تعامل رجالات الشرطة مع الزوار، ولقاءات وفود شيعية لسؤلي الدولة للحد من تداعيات الحادث، وتجديد المطالبة بتخفيف الضغط على الشيعة وتحقيق مطالبهم المشروعة، التي طالما تمت المطالبة بها.
3- الانتفاضة الثانية، التي شهدتها المنطقة الشرقية بعد اندلاع ثورات الربيع العربي2011 ومازالت إرهاصاتها قائمة حتى اللحظة الراهنة. وقد بدأت مجموعة من الاحتجاجات المتفرقة في المنطقة الشرقية يوم الخميس 3 مارس، متأثرة بموجة الاحتجاجات العارمة التي اندلعت في الوطن العربي، وخصوصاً ثورة التونسية وثورة 25 يناير المصرية اللتين أطاحتا بالرئيس التونسي زين العابدين بن علي والرئيس المصري حسني مبارك، وكذلك الثورة البحرينية التي لم يتمكن البحرينيون من إسقاط النظام بسبب تدخل درع الجزيرة. وقاد هذه الاحتجاجات مجموعة من الشبان السعوديين الشيعة للمطالبة حبل مشكلة التمييز الطائفي، وإطلاق بعض المعتقلين ومن بينهم فيما بات يعرف "بالسجناء التسعة المنسيون"، وكذلك إجراءات إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية عامة.
تلك المحطات الثلاث، التي صاحبها قتل بالرصاص لبعض المحتجين واعتقال ومداهمات لمنازل بعض الناشطين مضافا إلى حظرهم عن السفر، كرست حالة الخصومة السياسية بين النظام والشيعة، كما زادت من درجة التوتر والقلق المتبادل، وخلفت جوا طائفيا مقيتا أصبح الشيعة هم الطرف الأكثر تضررا منه.
تم ارسال رسالتك بنجاح