المعارضة في السعودية
التأرجح بين الهوى الإقليمي والوطنية الجامعة
هل هناك خصوصية للمعارضة في السعودية تميزها عن نظيراتها في الخليج أو ربما في البلدان الأخرى، العربية أو غير العربية؟ ما هي هذه الخصوصية: في الأسلوب، في الأهداف، في الخبرة والتجربة؟
المعارضة في المملكة شأنها شأن أي معارضة أخرى، لا بد وأن تكون متأثرة بالبيئة التي تنشأ فيها، وبنوعية المجتمع الذي تعمل من أجله: مستواه الثقافي، أفكاره وقيمه، ظرفه الإقتصادي، كما تتأثر بنوعية السلطة التي تواجهها، وبالظرف السياسي والإقتصادي للمحيط الإقليمي، وغير ذلك.
المعارضة وليدة بيئتها، وإن كان هذا لا يلغي تأثرها بنمط معين أو بفكر آخر، أو بتجربة قد تقترب أو تبتعد عن الواقع المحلي؛ غير أن من المستحيل نقل تجربة كاملة وتطبيقها على بلد آخر، كما أن نجاح أي معارضة مرهون بالدرجة الأساس بقدرتها على التعبير عن واقع مجتمعها وبيئتها، وبمقدار تجاوبها مع طموحات الناس وأفكارهم وقيمهم، ومدى معرفتها للخصم وآليات التغيير التي توصل للهدف.
من هذه الزاوية، يمكن القول أن هناك خصوصية للمعارضة في المملكة، تميزها عن نظيراتها في بلدان خليجية وعربية أخرى، وإن كانت تتفق معها في كثير من الخصائص، بل يمكن القول أن هناك خصوصية لأكثر من معارضة في المملكة، نظراً لتعدد أقاليمها كما تعدد ثقافة وتاريخ مجتمعاتها. وبإمكان أي باحث لتاريخ المعارضة في المملكة أن يقسمها على أسس مختلفة: كالأيديولوجيا: إسلاميين سلفيين، إسلامييين شيعة، إسلاميين ليبراليين، إسلاميين سنّة، يسار بمختلف أصنافه، قوميين: ناصريين وبعثيين وغير ذلك؛ كما يمكن تقسيم المعارضة على أسس مناطقية: نجدية، حجازية، شيعية قطيفية أو أحسائية؛ او تصنيفها على أسس اجتماعية: قبلية، طبقية، وغيرها؛ أو تقسيمها على أسس وسائلها ومستهدفاتها، كأن تكون المعارضة جذرية، عنفية مسلحة، إصلاحية ليبرالية، سلميّة، وهكذا.
لقد عرفت المملكة كل هذه الأنواع من المعارضة منذ أن تأسس كيانها الحديث وحتى اليوم، ولكننا نرى من المهم النظر الى تأثير الإنتماء الإقليمي والأيديولوجي على عمل كل منها لاسيما تلك التي اقتصر نطاق عملها على إقليم أو أقاليم محددة.
أهم الملاحظات على العمل المعارض في المملكة يمكن تلخيصه في التالي:
1 ـ إن معظم أطياف المعارضة في المملكة رأت ـ على الأقل لفترة من الزمن ـ التوسّل بالسلاح لإزالة النظام السعودي؛ وهي لذا يمكن اعتبارها معارضات جذريّة من حيث الأهداف ومن حيث اعتماد الوسائل.
2 ـ إن المعارضة في المملكة متشطرة ـ كما هي الدولة وأقاليمها ـ بسبب الجغرافيا التي تفصل المناطق، وبسبب ضعف الهوية والوحدة الوطنية الأمر الذي جعل من بروز حركة وطنية أمراً صعباً وإن اعتمدت على أيديولوجية وطنية أوفوق ـ وطنية.
3 ـ ان المعارضات في المملكة لم تكن تطلب يوماً أو تسعى أو حتى ربما تؤمن بالديمقراطية والنضال من أجلها؛ فهذه (بدعة) جديدة على الساحة السياسية العربية عموماً، فضلاً عن الساحة السعودية. وهناك شبه قناعة ـ لاتزال مسيطرة عند الكثيرين حتى الآن ـ تفيد بأن لا حرية ولا ديمقراطية ولا إصلاح في وجود العائلة المالكة الحالية، وبالتالي فإن أية دعوة للديمقراطية مع بقاء النظام مجرد سراب وخداع للنفس. نعم حدث خلال العقدين الماضيين بعض التغيير، حيث اقتنعت مجاميع معارضة عديدة بأن الإصلاح السلمي أمرٌ ممكن، وأن الدعوة الى الديمقراطية تمثل خشبة إنقاذ للدولة والمجتمع في المملكة؛ بيد أن هذا التغيير في الرأي ما يكاد يرتفع مؤشره حتى ينتكس بسبب الصدود الكبير من قبل العائلة المالكة، وإصرارها على أن لا تغيير سياسي بدون اجبارها عليه بالعنف أو بالسيف كما يقولون.
الحزب الوطني الحجازي: الحزب الإقليمي النخبوي
ظهر الحزب قبيل سقوط دولة الحجاز وإنهائها على يد الملك عبد العزيز آل سعود، وتولّى زعماء الحزب وهم أعيان الحجاز: عبد الرؤوف الصبان، وفؤاد الخطيب، والقائم مقام محمد صادق، وطاهر الدباغ، وعبد الحميد الخطيب، ومحمد الطويل وغيرهم، تولوا معارضة الحكم السعودي داعين الى استقلال الحجاز، وعودته الى ما كان عليه: مملكة ذات سيادة يحكمها حجازيون. وقام هؤلاء النفر بنشاط سياسي وإعلامي مكثف ـ بحساب ذلك الزمان ـ فاتصلوا بالجمعيات الإسلامية في الهند وغيرها، وارتبطوا بوشائج سياسية قوية مع اليمن ومصر والأردن والعراق لتخليص الحجاز من الحكم (الوهابي) كما حاول بعض أفراد الحزب إقامة تحالفات مع قبائل حجازية بدوية من أجل الإستفادة من قواها العسكرية في مناهضة الوجود السعودي في الحجاز.
ورغم أن الحزب لم يكن يمانع من استخدام العنف، إلا أنه كان حزب نخبة وأعيان، أبدى براعة في العمل السياسي ولكنه لم يكن قادراً على القيام بأي عمل عسكري، اللهم إلا عبر الإتفاق مع زعماء قبليين. قيل أن ثورة قبيلة (بلي) في شمال الحجاز في الثلاثينيات الميلادية كانت بتحريك من أعيان الحزب، وقالت تقارير بريطانية بأن اعتقالات واسعة قد طالت الحجازيين أثناء ثورة زعيم القبيلة حامد بن رفادة، والذي قتل وتلاعب الصبيان برأسه بأمر من الملك السعودي كما يقرر ذلك خير الدين الزركلي في كتابه شبه الجزيرة العربية في عهد الملك عبد العزيز.
بيد أن معظم أعضاء الحزب عادوا الى الحجاز بعد إخماد تلك الثورة المسلّحة، وبعد الضغوط السعودية البريطانية على كل من الملك فؤاد في مصر والملك عبد الله في شرقي الأردن والملك فيصل الأول في العراق للكف عن التدخل في الشؤون الداخلية لابن سعود!، الأمر الذي جعل زعماء الحزب الوطني الحجازي في حيرة فعادوا الى البلاد، وشغل الملك عبد العزيز أعضاءه بالمناصب.
ففؤاد الخطيب الذي كان وزيراً لخارجية الحكومة الهاشمية في عهد الشريف حسين ثم في عهد إبنه الملك علي بن الحسين، ظلّ ملازماً للأمير عبد الله في شرق الأردن قبل أن يعيّنه الملك عبد العزيز سفيراً للسعودية في أفغانستان حتى وفاته، فكان تعيينه ذاك بمثابة النفي (الى الآخرة).
ومحمد الطويل الذي كان وزيراً مسؤولاً عن الرسوم والضرائب في عهد الملك علي، عينه الملك عبد العزيز ناظراً لعموم جمارك الأحساء.
في حين عُين طاهر الدباغ مديراً عاماً للمعارف، وهو أعلى منصب تعليمي يومئذ، ولم يكن يوجد حينها تعليم نظامي إلا في الحجاز.
أما عبدالحميد الخطيب، الذي كان أحد أهم علماء مكة ووجهائها، والذي فرّ لاجئاً الى مصر ورأس جمعية الشبان الحجازيين في مصر، فقد تم تعيينه فيما بعد في الخارجية ثم سفيراً للمملكة لدى الباكستان.
أما عبد الرؤوف الصبّان فقد عيّنه الملك عضواً في مجلس الشورى الحجازي، في حين تم تعيين القائمقام محمد صادق مديراً لإحصاء النفوس في المملكة.
كان معظم هؤلاء القادة قد قطنوا مصر بعيد الإحتلال السعودي للحجاز، وكانت حكومة القاهرة وملكها (فؤاد) ساخطين بشدة بسبب استيلاء (الوهابيين) على الأماكن المقدسة، وما تلاها من مشاكل للحاج المصري، الى حد انقطاع الحج لفترة، ورفض السعوديين ان تأتي كسوة الكعبة من مصر كما هي العادة. قام الحجازيون ـ في ظل الصراع السعودي المصري ـ بنشاط إعلامي غير قليل، ولكنهم بعد مضي نحو عشر سنوات من سقوط دولة الحجاز عادوا الى بلادهم بتمهيد من الملك عبد العزيز حيث أصدر عفواً عاماً عن وجهاء الحجاز في السابع من شوال 1353هـ، فعادوا وقدم بعضهم اعتذاره للملك، بل أن الملك عبد العزيز أراد أن يصنع من عودتهم مناسبة تآلف وطني في ظاهرها.
ولا شك ان الملك أراد أن يقضي على النشاط المزعج من الخارج بتسهيل عودة اللاجئين المنفيين، أو بعضهم على الأقل، ومن جهة ثانية كان يعلم أن النخبة الحجازية كفوءة في إدارة دولة جديدة، لوجود الخبرة لدى تلك النخبة وإجادتها لفنون السياسة واللغات المتعددة والإدارة، وهي أمور كانت مجهولة بالكامل لدى من كانوا يعتبرون (محتلين نجديين).
وإذا كان الحزب الوطني الحجازي يعتبر حزباً نخبوياً إقليمياً (مناطقياً) فلأن أهدافه المعلنة كانت تتلخص في تحرير الحجاز من يد السعوديين، ومن ثم إعادة بناء الدولة الحجازية التي كانت قبلة الثورة العربية الكبرى التي قادها الشريف حسين وأبناؤه، والذين لازالوا حينها أحياءً ويسعون ويتمنون إعادة أملاكهم في الحجاز التي هي مسقط رأس الأسرة الشريفية الحاكمة في كل من الأردن والعراق. والحزب الوطني الحجازي هو أول حزب شبه منظم يضم خلاصة أعيان الحجاز وقواه الفاعلة من تجار وسياسيين وأصحاب مصالح ورجال دين، وقد اعتبر الحزب نفسه الوريث الشرعي للأشراف خاصة بعد أن قضى الإنجليز على حلم زعيمهم الشريف حسين، عبر نفيه الى خارج الديار العربية ـ الى قبرص ليموت فيها بعد فترة وجيزة من خلعه.
أما أبناء الشريف فقد انشغلوا بمناصبهم الجديدة: الشريف عبد الله في شرق الأردن، والأمير فيصل في سوريا ثم في العراق، الأمر الذي أشغلهم عن الحجاز، لهذا اعتبر أعيان الحجاز أنفسهم مسؤولين عن تحرير بلادهم، وكان نشاطهم يلقى دعماً خفياً من العراق والأردن، وكان الملك عبد العزيز يدرك بأن الحزب رغم ضعفه العسكري، إلا أنه يمثل البديل السياسي لحكومته، فوجد أنه من الأفضل استقطاب عناصره، وإشراكهم في حكمه، بدل أن يكونوا عامل نقمة وتثوير.
عادت قيادات الحجاز التي اختارت المنفى لتنضم الى تلك التي بقت داخل البلاد، على أمل أن تنقذ ما يمكن انقاذه، خاصة بعد أن أدرك هؤلاء العائدون بأن الأوضاع الإقليمية والدولية تسير باتجاه معاكس لمسعاهم في الإستقلال وبعث دولة الحجاز، فانخرطوا في أجهزة الدولة على أمل أن يكونوا شركاء في السلطة؛ ولقد قدّمت النخبة الحجازية خدمات جلّى للحجاز ولعموم المملكة، فقد جاء تقنين البلاد على يدهم وفي مجلس شوراهم، وأعطوا الكثير من أجل تحديث الإدارة الحكومية التي كانت في تلك الأيام الخوالي مجرد أشكال هلامية هزيلة.
أرادت النخبة الحجازية إصلاح الوضع العام في المملكة، إنطلاقاً من الحجاز ومؤسساته المدنية الحديثة المتفوقة على كل ما هو موجود حينها في مناطق المملكة المختلفة الأخرى، وتبوأوا بحكم تأهيلهم العالي الكثير من المراكز في المؤسسات الجديدة باعتبارهم الأقدر والأكثر خبرة وجدارة في ادارتها.
لكن هذه النخبة كانت تبحث عن (شراكة سياسية) وليس على (شراكة وظيفية) مقابل قبولها بالأمر الواقع، أي احتلال السعوديين للحجاز، لتشكيل دولة تحمل مسمى المملكة العربية السعودية. غير ان العائلة المالكة، والنخبة النجدية بشكل عام كان تسعى الى دمج النخبة الحجازية حفاظاً على وحدة السلطة السعودية من جانب، وإضعافاً للهاشميين ومنعاً لهم من التسلل الى مهد آبائهم وأجدادهم في الحجاز، ومن جهة ثالثة تضليلاً للرأي العام المحلي والدولي. يدلنا على ذلك ما ذكره أمين المميز الوزير العراقي المفوض في جدة في كتابه (المملكة العربية السعودية كما عرفتها) فهو يعترف بأن الأمير عبد الإله الوصي على العرش في العراق لم يتنازل عن الحجاز كحق شرعي وتاريخي في حكمه؛ وأنه طلب منه أن يتفحص الدعوات الحجازية الشعبية ما إذا كانت تريد الهاشميين لحكم الحجاز من جديد، وقد أثبت المميز في أكثر من مناسبة قوة المشاعر الحجازية تجاه الهاشميين؛ لكن المميز نقل عن الأمير فيصل (الملك فيما بعد) أنه قال له بأن أصحاب الشأن (الحجازيين أو النخبة الحجازية) نسوا موضوع الحجاز تحريراً أو انفصالاً، فلماذا يصر عبدالإله عليه؟ بمعنى أن الحجازيين سلموا بالأمر الواقع، فلماذا لم يفعل الأمير عبد الإله الأمر ذاته؟
ونتيجة ضعف موقف الهاشميين جرى تفاوض بين عبد الإله والملك سعود حول دفع السعوديين لعبد الإله مبلغاً من المال نظير تنازله عن حقوقه في الحجاز، وقد استمر الأمر أكثر من ثلاث سنوات 1954-1956 ولكن لم يتم التوصل الى حل بين الطرفين.
المهم أن موضوع الحجاز وإن لم يخرج كاملاً من يد الأشراف (حتى يومنا هذا) بالنظر للحقوق التاريخية التي يدعيها الهاشميون، وهي أقوى بكل المقاييس من الحقوق التاريخية للسعوديين، فإن النخبة الحجازية الماضية كما الحالية حين تأتي المفاضلة فإنهم يقفون الى جانب الهاشميين، ولكنهم في الوقت نفسه يشعرون اليوم بأنهم أقدر على حكم أنفسهم بعيداً عن العائلتين المتصارعتين منذ مطلع القرن العشرين حتى اليوم (مطلع القرن الواحد والعشرين)!
إن الأحلام التي رسمتها النخبة الحجازية بانضوائها في مشروع بناء الدولة السعودية تكسرت في النهاية، فقد تنبهت تلك النخبة وبشكل متأخر الى حالها، فوجدت أن المراكز التي كانت بيدها بدأت بالتسرب كما يتسرب الماء في رمال الصحراء العطشى، فحتى الأجهزة الفنيّة لم يعد الحجازيون الأساس في إدارتها اليوم، بعكس ما كان عليه الحال في العقود الماضية.
لقد قبل زعماء الحزب الوطني بالشراكة الجزئية في الدولة، شأنهم شأن أعيان الحجاز الآخرين الذين بقوا في الداخل، وذلك مقابل تخليهم عن موضوع (استقلال الحجاز).. غير ان الشراكة التي أرسيت معالمها عبر مجالس الشورى الأهلية وتوظيف النخبة الحجازية في بعض مؤسسات الدولة الوليدة لم تعد مرضية للحجازيين اليوم. فحتى هذه المناصب جرى اختاطفها نجدياً أو جردت من جوهر قوتها، وأصبحت الدولة (منجدة) فيما عرف بعملية (تنجيد مؤسسات المملكة) والتي تضاعف نشاطها منذ تولي الملك فهد الحكم.. وفضلاً عن هذا فإن الحجازيين وبعد مضي نحو ثمانية عقود لازالوا غير قادرين على إرساء مبدأ التكافؤ في الشراكة السياسية مع النجديين الذين يسيطرون على مفاتيح السلطة في المملكة.
الجمعية الوطنية الحجازية: امتداد للحزب الوطني
بدا ان موضوع الحجاز قد هدأ في حمّى الطفرة النفطية بعيد عام 1975، ولكن أدوات التحديث خلقت مشاعر تأزم في النسيج الإجتماعي السعودي، فتعززت هوية الأقاليم والمناطق، وانحازت السلطة النجدية الى عرينها، وتمّ تنجيد الدولة والسيطرة عليها شبه الكامل بلون ثقافي وسياسي وعسكري واحد. لم تنته فترة الطفرة إلا والمشاعر الفئوية حادة جامحة في كل المناطق وبين مختلف الفئات المسيطرة أو المهمّشة. لقد أضاف التحديث عناصر تنازع اجتماعي جديدة، وعزّز الفوارق بين الهويات ولهذا ما أن أطلت أزمة احتلال الكويت حتى تفجر موضوع تقسيم المملكة، واشتغل السعوديون ـ كحكام ـ بأطماع الملك الهاشمي حسين بن طلال في الحجاز، واشتغل النجديون كنخبة في الداخل بإثارة الهواجس وتضخيمها، بل أنهم لم يقبلوا بأن هناك تضخيماً في الموضوع حتى من أصدقائهم (جيمز أكينز، سفير اميركا السابق في جدة).
كان السعوديون مقتنعين بأن النخبة الحجازية ـ شأنها شأن النخبة الشيعية في الشرق ـ لا يمكن الوثوق بولائها. بديهي أن السياسي الذي يمارس التمييز المناطقي والطائفي بالحدّة التي تعيشها المملكة لا يمكنه إلا أن لا يطمئن لولاء الضحايا. فعنصر الولاء لا يمكن أن يأتي كمكافأة على السياسات الطائفية والمناطقية. فحين تنثر البغضاء والكراهية والتمييز، لا يجب أن تتوقع حباً وإخلاصاً. وهذا ما كان يعتقده الأمراء السعوديون. فرغم ظاهر الولاء المصطنع، فإنهم يرون بأعينهم أن النخبة الحجازية الحاضرة وبحسابات مصلحية أخرى تتعلق بالكرامة الإنسانية تميل الى تغيير النظام القائم او الإنسلاخ عن الدولة السعودية ـ النجدية، وأنها تنتظر الفرصة والغطاء الدولي المناسب لتستعيد الدولة الحجازية المصادرة.
لقد دمرت سياسات الملك فهد بالتحديد ما تبقى من قواسم مشتركة بين النجديين والحجازيين ـ وبين النجديين وغيرهم عامة ضمن إطار الدولة القائم، فهذا الإطار لا يحمل أي إغراء ينافس إغراء (دولة الخاصة). لقد كانت ازاحة الحجازيين الى الهامش طيلة العقدين الماضيين القشة التي قصمت ظهر البعير، فانفجرت الخصوصيات وقامت النخبة ذات المواصفات القديمة التي كانت تتمتع بها مثيلتها في بداية القرن العشرين (تجار رجال أعمال إدرايين وفنيين وكتاب) تتطلع الى قيام بديل للحكم السعودي يتمثل في دولة يشترك فيها الجميع على قدم المساواة، وهذا ما كان واضحاً في بداية التسعينيات الميلادية من القرن الماضي. ولكن لأن الإصلاح تأخر، وبدا شبه مستحيل، لهذا فإن فكرة العودة الى الماضي التليد بقيام دولة الحجاز هي ما يستهوي تلك النخبة اليوم. ويبدو أن تجربة الحزب الوطني الحجازي، تعاد صياغتها على أرض الواقع من جديد بكثيرمن الحذر، وبكثير من المهارة ايضاً.
يدلنا على هذا، أن علو صوت (الإنفصالية) من كل بقاع المملكة وخارجها بعيد احداث سبتمبر 2001، كان إيذاناً للقيام بعمل جديد، فقد تغير الظرف الدولي، الذي منح السعوديين شرعية احتلال الحجاز، وبات النظام السعودي منبوذا على الصعيد الدولي وعاجزاً عن إصلاح نفسه، وفي ظل غياب الهوية الوطنية، فإن فرصة تقسيم المملكة قد لاحت في الأفق من جديد. ليس غريباً والحال هذه أن تكون نفس النخبة الحجازية التي استقطبها عبدالعزيز وأبناؤه هي التي تقود الإنشقاق أو العودة الى الجذور عبر أحفادها، وإن بدا للنظام بأن مصالح بعض أفراد تلك النخبة توحي وكأنها قد تخلّت عن مطلب (الإستقلال).
مجلة (الحجاز) صوت (الجمعية الوطنية الحجازية) والتي بدأت بالصدور في نوفمبر 2002، كانت مجرد إشارة خجولة الى ذلك المشروع الكبير. فعلية المجتمع الحجازي ما فتئت تذكرنا بالجذور الحجازية الماضية، وكيف أنها ـ أي تلك النخبة ـ وريثة ذلك التراث الإستقلالي الذي لم ولن تتنازل عنه، حتى ولو تنازل عنه حفدة الحكام الهاشميين.
تطل مجلة الحجاز على قرائها بنفس واضح يميّز الحجازي وتراثه وتاريخه وآماله وطموحاته عن الآخرين، وبالخصوص فيما يتعلق بالخلفية الإجتماعية النجدية الوهابية للسلطة القائمة. وتتحدث المجلة بلغة براغماتية من جهة وبلهجة تهديدية من جهة أخرى، فهي من ناحية تريد إصلاحاً سياسياً ومساواة في المواطنة وحرية للخصوصيات المحلية، وعدالة في توزيع الثروة.. ومن جهة ثانية فإنها تحذر من الإستمرار في سياسة الهيمنة السعودية الوهابية، وتدفع بالقارئ الى استنباط أن البديل عما ذكر هو تأسيس دولة الحجاز. وتذكر الحجاز قراءها بتاريخ وتراث الحجازيين وتنقد نخبهم وممارستهم السياسية غير الحاسمة، كما تنتقد التحالفات الوهابية السعودية، وتدمير تراث الحجاز. وفي الجملة فإن المجلة تعدّ نموذجاً لما يمكن أن تكون عليه مجلة تدافع عن الحجاز وأهله.
إن النخبة التي تقف وراء مجلة (الحجاز) تعي بالضبط ماذا تريد، وهي تعلن تأوهها مما تتألم منه من خلال ما تطرحه من مقالات ودراسات، كما أنها تدرك حجم العقبات التي تقف أمام الأهداف المبتغاة. وبالرغم من أن أياً من الأسماء لم يظهر وراء المجلة (الحجاز) وبالرغم من كثرة التقولات حول الأسماء التي يمكن أن تكون وراء المجلة، فمن الواضح جداً أنها مجلة تمثل جزءً على الأقل من النخبة الحجازية، وأنها تمتلك خطاباً سياسياً واضحاً ومتطوراً، بل أكثر وعياً مما كان البعض يتوقعه.. فضلاً عن أن غياب الأسماء قد يلفت الأمر الى حقيقة وجود تنظيمات على مستوى الشارع أو مستوى النخبة الحجازية تعمل من أجل مستقبل أفضل للحجازيين سواء كان ذاك ضمن إطار الدولة السعودية الموحدة، أو إن لم ينجح الأمر، عبر الفكاك عنها وتأسيس دولة مستقلة.
وفي الجملة ينبغي الإشارة الى مجموعة من الملاحظات تتعلق بالمجتمع الحجازي وخصائصه التي جعلت من المعارضة فيه متميزة بتلوينات بيئته:
الأولى ـ لم تنشأ في الحجاز معارضة واسعة على الصعيد الوطني، تتبنى مطالب عامة. فقد كان الهمّ الإقليمي ـ المناطقي هو الغالب على ما سواه وهو (الإستقلال للحجاز).
صحيح أن عدداً غير قليل من الحجازيين تأثروا بالحركات الوطنية في العالم العربي خاصة في مصر، التي كانت على الدوام صاحبة التأثير الأكبر سياسياً ودينياً.. وصحيح أن أقطاب معارضة حجازيين حملوا الهم الوطني العام وسعوا الى إصلاح وضع المملكة وبينهم ضباط في القوات المسلحة وفي أجهزة الأمن كانوا قد تأثروا بالأفكار القومية التي حمل لواءها الرئيس جمال عبد الناصر، ووقفوا معه ورفضوا حين اشتعلت ثورة اليمن أن يحاربوا النظام الجمهوري الوليد.. بل أن عدداً من الطيارين الحجازيين رفضوا استخدام طائراتهم لقصف القوات المصرية في اليمن، وفرّ عدد منهم بطائراتهم الحربية الى مصر في قصة معروفة ومشهورة.
كل هذا صحيح، لكن المسحة العامة للحركة الحجازية المعارضة ـ كما يقول باحثون ـ كانت تغلب الهمّ المناطقي، كما هي الحال في مناطق أخرى من المملكة.
الثانية ـ لم تنشأ في الحجاز حركة شعبيّة معارضة، يكون الجمهور مشاركاً فاعلاً في صياغتها، بل وجدت وتوجد على الدوام تجمعات نخبوية، تعبّر عن طموحات الشارع الحجازي. إن النخبة الحجازية ـ كبيرة الحجم ـ هي التي تغذي الشارع بمقومات الحفاظ على الهوية، وتنفخ فيه روح التميز وتالياً طموح الإستقلال والإنفصال.
الثالثة ـ لم تنشأ في مراكز الحجاز المدينية حركات عنف، فالمجتمع الحجازي بطبيعته مسالم، ويميل الى الإحتفاظ بمكتسباته؛ إنه مجتمع تجاري مدني؛ باعتبار موطنه مكاناً مفتوحاً لكل مسلمي العالم، فكان من الطبيعي أن يتصف مجتمعه بالإعتدال فيحمل أفكاراً لينة نابذة للعنف والتطرف.
لكن عدم استخدام العنف لا يعني أنها ليست خياراً، فقد تساق مجتمعات ما الى ما لا ترغب فيه أحياناً. وإذا ما علمنا أن أية دعوات انشقاق لا بد وأن تواجه بالعنف، فإننا ندرك أن تحقق قيام دولة حجازية قد لا يتم بدون ثمن مادي قد يكون أحد ثمار استخدام العنف والعنف المضاد بين الدولة والمجتمع الحجازي.
لقد وجدت حركات عنف في الحجاز، لكنها جاءت من قبائل الحجاز وليس من مراكزه المدينية، وقد لاحظنا ذلك مثلاً في ثورة قبيلة بلي. وحدث مرة أن حاول أحد الطيارين الحجازيين في الأربعينيات الميلادية ـ هو عبد الله المنديلي ـ قصف مخيم الملك عبد العزيز بغرض قتله، وقيل أن ضباطاً حجازيين خططوا أكثر من مرة لإعداد انقلاب في القوات المسلحة، وقد شاركوا في أشهر انقلاب عسكري عام 1969م. المهم أن العنف يبدو طارئاً في الحجاز، ولم يتخذ الصفة الشعبية ولا المدنية (الحضرية).
الرابعة ـ إن المعارضة الحجازية أو من يصنّفون على أساس معارض، تحمل ويحملون صفات لا تخطئها العين.. فإضافة الى ما ذكر: نجد تأثر المعارضة بالبيئة الدينية، مع ملاحظة ان الحجاز لم يعرف في تاريخه منذ بزوغ الإسلام حركات عنف وتشدد ديني على الإطلاق. ويمكن ملاحظة ان الحجازيين يميلون الى التكتل والتجمع والتعاون من خلال القنوات الإجتماعية الطبيعية، ولا يبدو أنهم يحبذون ـ كما أن الأوضاع الأمنية الداخلية القمعية لا تسمح بذلك ـ اعتماد تنظيم سياسي علني، فضلاً عن أن النخبة الليبرالية التجارية صعبة الإنضباط ضمن قنوات تنظيمية حديدية. وباختصار يمكن القول أن المعارضة الحجازية تحمل الصفات الأهم التالية: أنها حجازية الهوى والهدف، وأنها تميل الى الإستقلال عن الدولة، وأنها نخبوية ـ ليبرالية معتدلة دينياً.
تم ارسال رسالتك بنجاح