هناك خطبة لصعصعة بن صوحان المعروف بتشيعه وحبه لعلي (عليه السلام)، يشير فيها إلى موقف أهل البحرين مما وقع بعد رحيل النبي الأعظم (صلَّى الله عليه وآله)، وهي خطبة خطبها في قومه عبد القيس عام ثلاث وأربعين للهجرة في الكوفة في فتنة للخوارج ضد حكم معاوية، وهذا يعني أن صعصعة لم يستشهد في معركة الجمل بل جرح وبقي حياً. يقول صعصعة في هذه الخطبة: "يا معشر عباد الله، إن الله وله الحمد كثيراً لما قسم الفضل بين المسلمين خصّكم منه بأحسن القسم، فأجبتم إلى دين الله الذي اختاره الله لنفسه وارتضاه لملائكته ورسله، ثمّ أقمتم عليه حتى قبض الله رسوله صلّى الله عليه وسلم، ثمَّ اختلف الناس بعده فثبتت طائفة، وارتدت طائفة، وأدهنت طائفة، وتربصت طائفة، فلزمتم دين الله إيماناً به وبرسوله، وقاتلتم المرتدين حتى قام الدين، وأهلك اللهُ الظالمين، فلم يزل الله يزيدكم بذلك خيراً في كلّ شيء وعلى كلّ حال، حتى اختلفت الأمّة بينها، فقالت طائفة نريد طلحة والزبير وعائشة، وقالت طائفة نريد أهل المغرب، وقالت طائفة نريد عبد الله بن وهب الراسبي راسب الأزد، وقلتم أنتم لا نريد إلا أهل البيت الذين ابتدأنا الله من قبلهم بالكرامة تسديداً من الله لكم وتوفيقاً فلم تزالوا على الحق لازمين له آخذين به، حتى أهلك اللهُ بكم وبمن كان على مثل هداكم ورأيكم الناكثين يوم الجمل، والمارقين يوم النهر....."(12).
وهذه الخطبة تدلّ على ثبات أهل البحرين على الحق، وعدم مفارقتهم أهل البيت (عليهم السلام)، ومن الأحاديث المبهمة ما ذكره البيهقي عن قتادة في تفسير آية الارتداد أنه "قد علم الله أنه سيرتد مرتدون من الناس، فلمّا قبض الله رسول الله صلّى الله عليه وسلم ارتدّ الناس عن الإسلام إلا ثلاثة مساجد؛ أهل المدينة، وأهل مكة، وأهل جواثا من أهل البحرين من عبد القيس، وقالت العرب: أما الصلاة فنصلي وأما الزكاة فوالله لا نغصب أموالنا"(13).
وهذه الرواية تحتاج إلى تفسير فما هو المقصود من عدم ارتدادهم، هل هو تسليمهم الأمر لأبي بكر أم أمر آخر. وقد تقدم في خطبة صعصعة ما يدل على أنهم حاربوا المرتدين بعد رحيل النبي (صلَّى الله عليه وآله)، وليس المقام هنا بحث هذا الأمر وإن كان مهماً. موقف الجارود من قدامة زمن عمر للجارود العبدي الصحابي الجليل موقف مهم زمن خلافة الثاني يدل على صلابته في الدين، حيث شرب قدامة بن مظعون الخمر في البحرين وهو أخو زوجة عمر فجلده أبو هريرة حيث كان والياً على البحرين آنذاك، "فقدم قدامة على عمر فشكا إليه أبا هريرة فبعث إليه عمر فأشخصه فقدم أبو هريرة معه بالشهود الذين شهدوا على شرب قدامة الخمر، وكان ممن قدم معه الجارود العبدي، فلما قدم عليه أبو هريرة سأله عن أمر قدامة فأخبره أنه جلده في الخمر فسأله عمر البينة فجاء بشهوده فالتقى عبد الله بن عمر والجارود العبدي، فقال له عبد الله بن عمر بن الخطاب: أنت الذي شهدت على خالي أنه شرب الخمر؟ قال: نعم، قال إذاً لا تجوز شهادتك عليه، فغضب الجارود وقال: أما والله لأجلدن خالك أو لأكفرن أباك، فدخلوا على عمر فشهدوا أنه ضربه في الخمر".(14).
وفي رواية أخرى أنّه "ركب الجارود العبدلي.... في نفر من أهل البحرين حتى قدموا على عمر، فذكروا له أمر قدامة، وشهدوا عليه بشرب الخمر، فسبّهم وغضب عليهم غضباً شديداً، وأبى أن ينزلهم، ومنع الناس أن ينزلوهم، ومرَّ الجارود بمنزل عمر وابنة له تطلع، وهي ابنة أخت قدامة، فقالت: والله لأرجو أن يخزيك الله، فقال: إنما يخزي الله العينين اللتين تشبهان عينيك، أو يأثم أبوك، ورجا عمر أن ينزعوا عن شهادتهم، وأعظم ما قالوا، وأرسل إلى الجاورد: لقد هممت أن أقتلك أو أحبسك بالمدينة فلا تخرج منها أبداً، أو أمحوك من العطاء فلا تأخذ مع المسلمين عطاءً أبداً، فأرسل إليه الجارود: إن قتلتني فأنت أشقى بذاك، وإن حبستني بالمدينة فما بلد أحبُّ إلي من بلد فيه قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومنبره ومهاجره، وإنْ محوتني من العطاء ففي مالي سعة، ويكون عليك مأثم ذاك وتباعته، فلمّا رأى عمر أنّهم لا ينزعون ولا يزدادون إلا شدّة أرسل إليهم وسمع منهم وقال: والله ما استعملت عاملاً قط لهوى لي فيه إلا قدامة، ثمَّ والله ما بارك الله لي فيه، ثمَّ كتب إلى أبي هريرة: إنْ كان ما شهدوا حقاً فاجلد قدامة الحد وأعدل، فلمّا جاء كتابُ عمر أبا هريرة جلد قدامة الحد"(15).
فنرى هنا إصرار عبد القيس في إقامة الحدِّ على قدامة رغم التهديد والوعيد من صاحب الدرَّة. تشيع أهل البحرين زمن الأمير (عليه السلام) وكان من ولاة البحرين زمن علي (عليه السلام) عمر بن أبي سلمة(16).
وهو ابن أم سلمة زوجة النبي (صلَّى الله عليه وآله) المخلصة، وكان ابنها من الموالين لأمير المؤمنين (عليه السلام)، "وشهد مع علي الجمل".(17).
ولأهل البحرين زمن الأمير (عليه السلام) مواقف كثيرة جداً تدلُّ على صلابة إيمانهم، وثباتهم على ولاية الأمير (عليه السلام)، وبذلك نالوا منزلة خاصة في قلب علي (عليه السلام) كما يأتي، ويمكن للباحث أن يكتب مقالاً مستقلاً عن علاقتهم بعلي (عليه السلام) ومواقفهم الكثيرة معه.
وكانت خلافة الأمير (عليه السلام) مشحونة بالأحداث المهمّة، وقد شغلته الحروب الثلاثة في الخمس سنين التي حكم فيها، وقد كان لأهل البحرين الدور الفاعل بل والمتميز، وقد ذكرت عدة من الروايات أن أغلب عبد القيس كانوا مع علي (عليه السلام)، فقد نقل الشيخ المفيد (رحمه الله) عن الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام) في حرب الجمل أنه قد "خرجت إليه ربيعة كلها إلا مالك بن مسمع منها، وجاءته عبد القيس بأجمعها سوى رجل واحد تخلف عنها، وجاءته بنو بكر يرأسهم شقيق بن ثور السدوسي ورأس عبد القيس عمر ابن جرموز العبدي".(18).
ونُقِل أنَّه "كانت ربيعة مع علي يوم الجمل ثلث أهل الكوفة، ونصف الناس يوم الوقعة"(19).
وكان أهل البحرين من المسارعين إلى إجابة الأمير (عليه السلام)، فإنه (عليه السلام) لما بعث زياد بن خصفة بن بكر بن وائل جاءهم زياد وقال لهم: "أمّا بعد يا معشر بكر بن وائل، فإنّ أمير المؤمنين ندبني لأمر من أموره مهم له، وأمرني بالانكماش فيه بالعشيرة حتى آتي أمره، وأنتم شيعته وأنصاره، وأوثق حيّ من أحياء العرب في نفسه، فانتدبوا معي في هذه الساعة وعجلوا"، قال: فوالله ما كان إلا ساعة حتى اجتمع إليه منهم مائة رجل ونيف وعشرون أو ثلاثون، فقال: اكتفينا، ولا نريد أكثر من هؤلاء، قال: فخرج زياد حتى قطع الجسر، ثمّ أتى دير أبي موسى فنزله، فأقام به بقية يومه ذلك ينتظر أمر أمير المؤمنين (عليه السلام)"(20).
وقائد هذه المعركة هو الحكيم بن جبلة العبدي، وسميَّت بمعركة الجمل الصغرى لكونها مع صاحبة الجمل، وقبل وقعة الجمل مع الأمير (عليه السلام)، وقد جاء أن حكيم العبدي قال لعثمان بن حنيف والي البصرة من قبل الأمير (عليه السلام): أن يبدأ الحرب ضد طلحة والزبير قبل وصولهم البصرة، فرفض عثمان فقال حكيم: "فأذن لي حتى أسير إليهم بالناس، فإن دخلوا في طاعة أمير المؤمنين وإلا نابذتهم على سواء، فقال عثمان: لو كان ذلك رأيي لسرت إليهم بنفسي، قال حكيم: والله لو دخلوا عليك هذا المصر لينتقلن قلوب كثير من الناس إليهم وليزيلنك عن مجلسك هذا، وأنت أعلم فأبى عليه عثمان، قال: وكتب علي إلى عثمان لما بلغه مشارفة القوم البصرة: «من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عثمان بن حنيف، أما بعد: فإن البغاة عاهدوا الله، ثم نكثوا، وتوجهوا إلى مصرك، وساقهم الشيطان لطلب مالا يرضى الله به، والله أشدّ بأساً وأشد تنكيلاً، فإذا قدموا عليك فادعهم إلى الطاعة والرجوع إلى الوفاء بالعهد، والميثاق الذي فارقونا عليه، فإن أجابوا فأحسن جوارهم ما داموا عندك، وإن أبوا إلا التمسك بحبل النكث والخلاف، فناجزهم القتال حتى يحكم الله بينك وبينهم، وهو خير الحاكمين. وكتبت كتابي هذا إليك من الربذة وأنا معجل المسير إليك إن شاء الله»(21). ولما وصل طلحة والزبير بجيشهما البصرة قتلوا السبابجة وهم حراس بيت المال، وضربوا والي البصرة عثمان بن حنيف وطردوه، "فلمّا بلغ حكيم بن جبلة ما صنع القوم بعثمان بن حنيف، خرج في ثلاثمائة من عبد القيس مخالفاً لهم ومنابذاً، فخرجوا إليه، وحملوا عائشة على جمل، فسمي ذلك اليوم يوم الجمل الأصغر، ويوم علي يوم الجمل الأكبر، وتجالد الفريقان بالسيوف، فشدّ رجلٌ من الأزد من عسكر عائشة على حكيم بن جبلة فضرب رجله فقطعها، ووقع الأزدي عن فرسه، فجثا حكيم، فأخذ رجله فرمى بها الأزدي فصرعه، ثم دبَّ إليه فقتله متكئاً عليه خانقاً له حتى زهقت نفسه فمرّ بحكيم إنسان وهو يجود بنفسه، فقال: من فعل بك؟ قال: وسادي، فنظر فإذا الأزدي تحته، وكان حكيم شجاعاً مذكوراً، قال: وقتل مع حكيم إخوة له ثلاثة، وقتل أصحابه كلهم، وهم ثلاثمائة من عبد القيس والقليل منهم من بكر بن وائل"(22).
ولمّا بلغ الأمر أمير المؤمنين (عليه السلام) تأثر كثيراً ووصف حكيم بالعبد الصالح(23)، وخطب في أصحابه فقال (عليه السلام): «إنه أتاني خبر متفظع ونبأ جليل: أن طلحة والزبير وردا البصرة فوثبا على عاملي فضرباه ضرباً مبرحاً وتُرك لا يدرى أحي هو أم ميت، وقتلا العبد الصالح حكيم بن جبلة في عدة من رجال المسلمين الصالحين لقوا الله موفون ببيعتهم ماضين على حقهم، وقتلا السبابجة خزان بيت المال الذي للمسلمين، قتلوهم صبراً، وقُتلوا غدراً»، فبكى الناس بكاءً شديداً ورفع أمير المؤمنين (عليه السلام) يديه يدعو ويقول: «اللهمَّ اجز طلحة والزبير جزاء الظالم الفاجر والخفور الغادر»(24). وفي نص آخر أنّه لمّا: "أتاه الخبر بما لقيت ربيعة وخروج عبد القيس ونزولهم بالطريق، فقال: «عبد القيس خير ربيعة، في كل ربيعة خير»، وقال: يا لهف نفسي على ربيعة ربيعة السامعة المطيعة قد سبقتني فيهم الوقيعة دعا علي دعوة سميعة حلوا بها المنزلة الرفيعة".(25).
وفي أنساب الأشراف:دعا حكيم دعوة سميعة نال بها المنزلة الرفيعة"(26).
ومما يدلّ على مكانة حكيم عند أمير المؤمنين (عليه السلام)اعتراض طلحة والزبير على الأمير (عليه السلام) لما لم يولهما البصرة والكوفة حيث قالا:"وملّكتَ أمرَك الأشتر وحكيم بن جبلة وغيرهما من الأعراب"(27).
بل إنَّ الأمير (عليه السلام) جعل أحد مسوغات مقاتلته أصحاب الجمل هو قتل حكيم وأصحابه، فقد روى الشيخ المفيد أنَّ أبا بردة بن عوف الأزدي -وكان عثمانياً تخلف عن علي (عليه السلام) يوم الجمل وحضر معه صفين على ضعف نية في نصرته- قال لعلي (عليه السلام): "يا أمير المؤمنين، أرأيت القتلى حول عائشة وطلحة والزبير بم قتلوا؟ فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «بما قتلوا شيعتي وعمّالي، وبقتلهم أخا ربيعة العبدي في عصابة من المسلمين قالوا: لا ننكث البيعة كما نكثتم، ولا نغدر كما غدرتم، فوثبوا عليهم فقتلوهم ظلماً وعدواناً، فسألتهم أن يدفعوا إليّ قتلة إخواني منهم أقتلهم بهم، ثمَّ كتاب الله حكم بيني وبينهم، فأبوا عليَّ وقاتلوني وفي أعناقهم بيعتي ودماء نحو ألف من شيعتي فقتلتهم بذلك»(28).
كانت ربيعة كما تقدم مشاركة بأجمعها مع علي (عليه السلام) في حرب الجمل، وهناك مواقف عدة تدلّ على قربها من الأمير (عليه السلام) وثقة الأمير (عليه السلام) بها، فمثلاً ذكر أن علياً (عليه السلام) كان قد التجأ إلى ربيعة لما تفرّق الناس، قال الطبري: "أنّ علياً حيث انتهى إلى ربيعة تبارت ربيعة بينها فقالوا: إن أصيب علي فيكم، وقد لجأ إلى رايتكم افتضحتم، وقال لهم شقيق بن ثور: يا معشر ربيعة لا عذر لكم في العرب إن وصل إلى علي فيكم وفيكم رجل حي، وإن منعتموه فمجد الحياة اكتسبتموه، فقاتلوا قتالاً شديداً حين جاءهم علي لم يكونوا قاتلوا مثله، ففي ذلك قال علي: لمن راية سوداء يخفق ظلها إذا قيل قدمها حضين تقدما يقدمها في الموت حتى يزيرها حياض المنايا تقطر الموت والدما أذقنا ابن حرب طعننا وضرابنا بأسيافنا حتى تولى وأحجما جزى الله قوماً صابروا في لقائهم لدى الموت قوماً ما أعف وأكرما وأطيب أحباراً وأكرم شيمة إذا كان أصوات الرجال تغمغما ربيعة أعني أنهم أهل نجدة وبأس إذا لاقوا جشيماً عرمرما"(29).
وفي نص آخر يشرح بدقة حرص ربيعة على حماية الأمير (عليه السلام)وخوف معاوية منهم ما ذكره ابن أبي الحديد المعتزلي أنّ معاوية قال لعمرو بن العاص:"أما ترى يا أبا عبد الله إلى ما قد دفعنا، كيف ترى أهل العراق غداً صانعين!
إنا لبمعرض خطر عظيم، فقال له: إن أصبحت غداً ربيعة وهم متعطفون حول علي (عليه السلام) تعطف الإبل حول فحلها، لقيت منهم جلاداً صادقاً وبأساً شديداً، وكانت التي لا يتعزى لها. فقال معاوية: أيجوز أنك تخوفنا يا أبا عبد الله؟
قال: إنك سألتني فأجبتك، فلما أصبحوا في اليوم العاشر أصبحوا وربيعة محدقة بعلي (عليه السلام) إحداق بياض العين بسوادها.
قال نصر: فحدثني عمرو قال: لما أصبح علي (عليه السلام)، هذا اليوم، جاء فوقف بين رايات ربيعة، فقال عتاب بن لقيط البكري، من بنى قيس بن ثعلبة: يا معشر ربيعة، حاموا عن علي منذ اليوم، فإن أصيب فيكم افتضحتم، ألا ترونه قائماً تحت راياتكم! وقال لهم شقيق بن ثور: يا معشر ربيعة، ليس لكم عذر عند العرب إن وصل إلى علي وفيكم رجل حي. فامنعوه اليوم، واصدقوا عدوكم اللقاء، فإنه حمد الحياة تكسبونه، فتعاهدت ربيعة وتحالفت بالأيمان العظيمة منها، تبايع سبعة آلاف على ألا ينظر رجل منهم خلفه، حتى يَردُوا سرادق معاوية، فقاتلوا ذلك اليوم قتالاً شديداً لم يكن قبله مثله، وأقبلوا نحو سرادق معاوية، فلما نظر إليهم قد أقبلوا قال: إذا قلت قد ولت ربيعة أقبلت كتائب منها كالجبال تجالد، ثم قال لعمرو: يا عمرو، ما ترى؟
قال: أرى ألا تحنث أخوالي اليوم، فقام معاوية وخلّى لهم سرادقه ورحله وخرج فاراً عنه، لائذاً ببعض مضارب العسكر في أخريات النّاس، فدخله وانتهبت ربيعة سرادقه ورحله، وبعث إلى خالد بن المعمر:إنّك قد ظفرت، ولك إمرة خراسان إن لم تتم، فقطع خالد القتال ولم يتمه، وقال لربيعة: قد برّت أيمانكم فحسبكم، فلما كان عام الجماعة، وبايع الناس معاوية، أمّره معاوية على خراسان، وبعثه إليها، فمات قبل أن يبلغها"(30).
وكان علي (عليه السلام) كما تقدم عند الشدائد يلتجئ بربيعة فنقل أنّه "صاح علي بالأشتر فحمل في أهل الكوفة، وصاح بعبد الله بن عباس فحمل في أهل البصرة، وحمل علي في أهل الحجاز، فما بقي لأهل الشام صف إلا انتقض. قال: وجعل أهل الشام ينظر بعضهم إلى بعض، ولا يقدرون على الكلام لما هم فيه من الدهش والهموم، قال: وترك الناس راياتهم، وتفرَّق أصحابُ علي، فصار عليٌّ إلى رايات ربيعة فوقف معهم، وجعل أصحابه يطلبونه فلا يقدرون عليه"(31).
وهذه المكانة لربيعة في قلب علي (عليه السلام) سببت الغيرة لبعض القبائل الأخرى فقد كان (عليه السلام):"لا يعدل بربيعة أحداً من الناس، فشقَّ ذلك على مضر وأظهروا لهم القبيح وأبدوا ذات أنفسهم، فقام أبو الطفيل عامر بن واثلة وعمير بن عطارد وقبيصة بن جابر وعبد الله بن الطفيل في وجوه قبائلهم فأتوا علياً فتكلّم أبو الطفيل فقال:إنا والله يا أمير المؤمنين ما نحسد قوماً خصّهم الله منك بخير، وإنّ هذا الحي من ربيعة قد ظنّوا أنّهم أولى بك منا فاعفهم عن القتال أياماً واجعل لكلِّ امرئ منا يوماً نقاتل فيه، فإنّا إذا اجتمعنا اشتبه عليك بلاؤنا، فقال (عليه السلام): «نعم أعطيكم ما طلبتم»، وأمر ربيعة أن تكفّ عن القتال"(32).
في كتاب وقعة صفين وتاريخ الطبري وغيرهما: "فلما كان يوم الخميس انهزم الناس من الميمنة فجاءنا علي (عليه السلام) حتى انتهى إلينا ومعه بنوه، فنادى بصوت عال جهير كغير المكترث لما فيه الناس، وقال: «لمن هذه الرايات؟» قلنا: رايات ربيعة. قال: «بل هي رايات الله، عصم الله أهلها وصبرهم وثبت أقدامهم» (33).
وفي البحار: قال نصر: وحدثني عمرو بن الزبير: [قال:] لقد سمعت الخصين بن المنذر يقول: أعطاني علي (عليه السلام) ذلك اليوم راية ربيعة ومضر وقال: «بسم الله سر يا حضين، واعلم أنه لا تخفق على رأسك براية مثلها أبداً هذه راية رسول الله»(34).
أنتم درعي ورمحي: الطبري في تاريخه: "وقد ذكر أنّ عماراً لما قتل قال علي لربيعة وهمدان: «أنتم درعي ورمحي»".(35).
وفي كتاب وقعة صفين لابن مزاحم قال: "وأقبل علي (عليه السلام) على ربيعة فقال: «أنتم درعي ورمحي» [قال: فربيعة تفخر بهذا الكلام إلى اليوم] فقال عدي بن حاتم: يا أمير المؤمنين، إنَّ قوماً أنست [بهم] وكنت فيهم في هذه الجولة، لعظيم حقهم علينا، والله إنهم لصبر عند الموت، أشداء عند القتال".(36).
وفي كتاب الفتوح:"فقال عدي بن حاتم الطائي: يا أمير المؤمنين.. إنّ قوماً أنست بهم وكنت فيهم عند هذه الجولة في هذه الحرب الشديدة لعظم حقهم عليك، والله إنهم لصبروا عند الموت وعند اللقاء، فقال علي (عليه السلام): «وإنهم لدرعي وسيفي ورمحي». قال: وأنشأ رجل من ربيعة يقول: أتانا أمير المؤمنين فحسبنا على الناس طراً أجمعين بها فضلا على حين أن زلت بنا النعل زلة ولم تترك الحرب العوان لنا نجلا وقد أكلت منهم ومن فوارسا كما تأكل النيران في الحطب الجزلا فكنا له في ذلك الوقت جنة وكنا له من دون أنفسنا نصلا فأبنا بفضل لم ير الناس مثله على قومنا طرا وكنا له أهلا وقال لنا: أنتم ربيعة جنتي ودرعي التي ألقي بأعراضها النبلا. وقال علي (عليه السلام) لربيعة «يا معشر ربيعة، أنتم أنصاري ومجيبوا دعوتي، ومن أوثق أحياء العرب في نفسي».(37).
قوم نجباء أهل حب ووفاء: روي أنّه امتدح أبو أسماء العبدي علياً (عليه السلام) بصفين بأبيات من الشعر، فلمّا أنشدها قال علي (عليه السلام): «رحمك الله يا أبا أسماء وأسمعك خيراً [إني] وإن أكن [كذلك]، فإنك من قوم نجباء أهل حب ووفاء»".(38).
وفي شرح نهج البلاغة: "قال نصر: وحدثنا عمرو بن شمر، قال: أقبل الحضين بن المنذر يومئذ وهو غلام يزحف براية ربيعة، وكانت حمراء، فأعجب عليا (عليه السلام) زحفه وثباته، فقال: لمن راية حمراء يخفق ظلها إذا قيل قدمها حضين تقدما ويدنو بها في الصف حتى يزيرها حمام المنايا تقطر الموت والدما تراه إذا ما كان يوم عظيمة أبى فيه إلا عزة وتكرما جزى الله قوماً صابروا في لقائهم لدى الناس حراً ما أعف وأكرما وأحزم صبراً يوم يدعى إلى الوغى إذا كان أصوات الكماة تغمغما ربيعة أعني، إنهم أهل نجدة وبأس إذا لاقوا خميساً عرمرما قال نصر: وأقبل ذو الكلاع في حمير ومن لفَّ لفها، ومعهم عبيد الله بن عمر بن الخطاب في أربعة آلاف من قراء أهل الشام، وذو الكلاع في حمير في الميمنة، وعبيد الله في القراء في الميسرة، فحملوا على ربيعة وهم في ميسرة أهل العراق، وفيهم عبيد الله بن العباس حملة شديدة، فتضعضعت رايات ربيعة، ثمّ إنّ أهل الشام انصرفوا فلم يمكثوا إلا قليلاً، حتى كرّوا ثانية، وعبيد الله بن عمر في أوائلهم، يقول: يا أهل الشام، هذا الحي من العراق قتلة عثمان بن عفان وأنصار علي ابن أبي طالب، ولئن هزمتم هذه القبيلة أدركتم ثأركم من عثمان، وهلك علي وأهل العراق، فشدّوا على الناس شدة عظيمة، فثبتت لهم ربيعة، وصبرت صبراً حسناً إلا قليلاً من الضعفاء، فأمّا أهل الرايات وذوو البصائر منهم والحفاظ، فثبتوا وقاتلوا قتالاً شديداً"(39).
وليتأمل القارئ في كلام عبيد الله بن عمر. جهاد نساء أهل البحرين: ومما يذكر في حقَّ نساء ربيعة وعبد القيس: أنّ أمير المؤمنين صلوات الله عليه دخل على عائشة لما أبت الخروج فقال لها: «يا شعيراء ارتحلي وإلا تكلمت بما تعلمينه»، فقالت: نعم أرتحل، فجهزها وأرسلها ومعها أربعين امرأة من عبد القيس".(40).
وفي تاريخ اليعقوبي: "فقال: «إيها يا حميراء، ألم تنتهي عن هذا المسير؟» فقالت: يا ابن أبي طالب! قدرت فأسجح. فقال: «اخرجي إلى المدينة، وارجعي إلى بيتك الذي أمرك رسول الله أن تقرّي فيه»، قالت: أفعل، فوجه معها سبعين امرأة من عبد القيس في ثياب الرجال، حتى وافوا بها المدينة(41). وأيضاً: "قال أبو مخنف وذكر أبو المخارق الراسبي قال: اجتمع ناس من الشيعة بالبصرة في منـزل امرأة من عبد القيس يقال لها مارية ابنة سعد أو منقذ أياماً، وكانت تتشيع وكان منـزلها لهم مألفاً يتحدثون فيه، وقد بلغ ابن زياد إقبال الحسين، فكتب إلى عامله بالبصرة أن يضع المناظر ويأخذ بالطريق، قال: فأجمع يزيد بن نبيط الخروج وهو من عبد القيس إلى الحسين وكان له بنون عشرة، فقال: أيُّكم يخرج معي فانتدب معه ابنان له عبد الله وعبيد الله، فقال لأصحابه في بيت تلك المرأة: إني قد أزمعت على الخروج، وأنا خارج، فقالوا له: إنا نخاف عليك أصحاب ابن زياد، فقال: إني والله لو قد استوت أخفافهما بالجدد لهان عليّ طلب من طلبني، قال: ثمّ خرج فقوى في الطريق حتى انتهى إلى الحسين (عليه السلام) فدخل في رحله بالأبطح، وبلغ الحسين (عليه السلام) مجيئه فجعل يطلبه، وجاء الرجل إلى رحل الحسين (عليه السلام) فقيل له: قد خرج إلى منـزلك، فأقبل في أثره ولما لم يجده الحسين (عليه السلام) جلس في رحله ينتظره، وجاء البصري فوجده في رحله جالساً، فقال: بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا، قال: فسلم عليه وجلس إليه، فخبره الذي جاء له فدعا له بخير، ثم أقبل معه حتى أتى فقاتل معه فقتل معه هو وابناه"(42).
هذا مختصر مما يدل على تشيع أهل البحرين في زمن خلافة علي (عليه السلام).
بعد استشهاد الأمير (عليه السلام)
ذكر ابن عساكر نصاً مهماً في الدلالة على كون أهل البحرين من السبَّاقين لمعارضة أي حكم غير حكم أهل البيت (عليهم السلام)، فقد روي: "عن أبي عبيدة قال: لمّا قتل علي بن أبي طالب (عليه السلام) أراد معاوية الناس على بيعة يزيد، فتثاقلت ربيعة ولحقت بعبد القيس بالبحرين، واجتمعت بكر بن وائل إلى خالد بن المعمر، فلمّا تثاقلت ربيعة تثاقلت العرب أيضاً، فضاق معاوية بذلك ذرعاً فبعث إلى خالد فقدم عليه، فلمّا دخل عليه رحّب به، وقال: كيف ما نحن فيه، قال أرى ملكاً طريفاً وبغضاً تليداً، فقال معاوية: قل ما بدا لك فقد عفونا عنك، ولكن ما بال ربيعة أوّل الناس في حربنا، وآخرهم في سلمنا، قال له خالد: إنما أتيتك مستأمناً ولم آتك مخاصماً، ولست للقوم بحري في حجتهم، وإنّ ربيعة إن تدخل في طاعتك تنفعك، وإن تدخل كرهاً تكن قلوبها عليك وأبدانها لك، فأعط الأمان عامتهم شاهدهم وغائبهم، وأن ينـزلوا حيث شاءوا، فقال: أفعل، فانصرف خالد إلى قومه بذلك، ثمّ إنّ معاوية بدا له، فبعث إلى خالد فدعاه، فلمّا دخل إليه قال: كيف حبك لعلي، قال: اعفني يا أمير المؤمنين مما أكره، فأبى أن يعفيه، فقال: أحبّه والله على حلمه إذا غضب، ووفائه إذا عقد، وصدقه إذا أكد، وعدله إذا حكم"(43).
وفي هذا النص صراحة في كون ربيعة موالية لعلي (عليه السلام)، وأنها مؤثرة في عامة الناس، وإن كان خالد بن معمّر هذا قد وردت روايات تذمّه، وفي نص أنّه كان يكاتب معاوية في معركة صفين، وتقدم أنه أوقف القتال لما وصلت ربيعة لسرادق معاوية. ما يدل على تشيع أهل البحرين عامة ذكر مجموعة من المؤرخين -خلال ترجمة صحار بن العباس العبدي- كلمات مهمة تدلّ على كون أغلب عبد القيس من الشيعة، فقال ابن النديم: "صحار العبدي وكان خارجياً، وهو صحار بن العباس، أحد النسابين والخطباء في أيام معاوية بن أبي سفيان. وله مع دغفل أخبار، وكان صحّار عثمانياً من عبد القيس"(44).
وفي طبقات ابن سعد: "وكان صحار فيمن طلب بدم عثمان"(45).
ويظهر من هذا الكلام أنَّ صحار مخالف لعقيدة قومه من عبد القيس. وفي كتاب الغارات باسم ابن عياش: "وفي الإشتقاق لابن دريد تحت عنوان (أسماء بني ربيعة وقبائلهم): (ومنهم صحار بن عياش كان ممن وفد على النبي (صلَّى الله عليه وآله) وكان عثماني الرأي مخالفاً لقومه"(46).
وأصرح من كل ذلك ما ذكره ابن قتيبة حيث قال: "صحار بن العباس العبدي.... وكان عثمانياً وكانت عبد القيس تتشيع فخالفها"(47).
تم ارسال رسالتك بنجاح