إنّ أسرة موقعنا لا تتبنّى المعلومات في الورقة البحثية، إنّما تنقل ما قيل في ذلك الزمان، دون زيادة أو نقصان.
عن قتادة في "تاريخ مدينة دمشق" (ابن عساكر ج30 ص 319)
ارتدت العرب كلها إلا ثلاثة مساجد، مساجد مكة والمدينة والبحرين..
لما قدم الجارود بن المعلى العبدي على النبي صلى الله عليه وسلم وتفقه رده إلى قومه عبد القيس فكان فيهم. فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم وكان المنذر بن ساوى العبدي مريضاً فمات بعد النبي صلى الله عليه وسلم بقليل، فلما مات المنذر بن ساوى ارتد بعده أهل البحرين فأما بكر فتمت على ردتها، وأمّا عبد القيس فإنهم جمعهم الجارود، وكان بلغه أنهم قالوا: لو كان محمد نبياً لم يمت، فلما اجتمعوا إليه قال لهم: أتعلمون أنه كان لله أنبياء فيما مض؟ قالوا: نعم قال: فما فعلوا؟ قالوا: ماتوا قال: فإن محمداً صلى الله عليه وسلم قد مات كما ماتوا؛ وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله .
فأسلموا وثبتوا على إسلامهم، وحضر أصحاب المنذر بعده حتى استنقذهم العلاء بن الحضرمي، واجتمعت ربيعة بالبحرين على الردة إلا الجارود ومن تبعه وقالوا: نرد الملك في المنذر بن النعمان بن المنذر. وكان يسمى الغرور، فلما أسلم كان يقول: أنا المغرور ولست بالغرور.
وخرج الحطم بن ضبيعة أخو بني قيس بن ثعلبة في بكر بن وائل فاجتمع إليه من غير المرتدين ممن لم يزل مشركاً حتى نزل القطيف، وهجر، واستغوى الخط ومن بها من الزط، والسبابجة، وبعث بعثاً إلى دارين، وبعث إلى جُواثا فحصر المسلمين فاشتد الحصر على من بها، فقال عبد الله بن حذف، وقد قتلهم الجوع:
ألا أبْلِغْ أبَا بَكْرٍ رسولاً * وفتْيانَ المدينةِ أجمَعِيْنَا
فهَلْ لكُمُ إلى قومٍ كِرامٍ * قُعُود في جُواثَا محْصَرِينا
كأنَ دِمَاءَهُم في كلِّ فَج * شُعَاعُ الشًمْسِ تَغْشَى النَاظِريْنَا
توكَّلْنَا على الرحمنِ إنا * وَجَدْنَا النَّصْر للمتوكلينا
وكان سبب استنقاذ العلاء بن الحضرمي إياهم أن أبا بكر كان قد بعثه على قتال أهل الردة بالبحرين فلما كان بحيال اليمامة لحق به ثمامة بن أثال الحنفي في مسلمة بني حنيفة ولحق به أيضاً قيس بن عاصم المنقري، وأعطاه بدل ما كان قسم من الصدقة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وانضم إليه عمرو والأبناء، وسعد بن تميم، والرباب أيضاً لحقته في مثل عدته، فسلك بهم الدهناء حتى [إذا] كانوا في بحبوحتها نزل وأمر الناس بالنزول في الليل فنفرت إبلهم بأحمالها فما بقي عندهم بعير ولا زاد ولا ماء، فلحقهم من الغم ما لا يعلمه إلا الله، ووصى بعضهم بعضاً فدعاهم العلاء فاجتمعوا إليه. فقال: ما هذا الذي غلب عليكم من الغم؟ فقالوا: كيف نلام؟ ونحن إن بلغنا غدا لم تحم الشمس حتى نهلك. فقال: لن تراعوا أنتم المسلمون، وفي سبيل الله، وأنصار الله فأبشروا، فوالله لن تخذلوا .
فلما صلوا الصبح دعا العلاء ودعوا معه فلمع لهم الماء فمشوا إليه وشربوا واغتسلوا فما تعالى النهار حتى أقبلت الإبل تجمع من كل وجه فأناخت إليهم فسقوها، وكان أبو هريرة فيهم، فلما ساروا عن ذلك المكان قال لمنجاب بن راشد: كيف عِلمك بموضع الماء؟ قال: عارفٌ به. فقال له: كن معي حتى تقيمني عليه. قال: فرجعتُ به إلى ذلك المكان فلم نجد إلا غدير الماء. فقلت له: والله لولا الغدير لأخبرتك أنّ هذا هو المكان، وما رأيت بهذا المكان ماء أ قبل اليوم، وإذا إداوة مملؤة ماء. فقال أبو هريرة: هذا والله المكان: وما رأيت ولهذا رجعت بك وملأت إداوتي ثم وضعتها على شفير الغدير، وقلت: إنْ كان منا من المنّ عرفته وإنْ كان عيناً عرفته فإذا مَنَ مِن المن فحمد الله .
ثم ساروا فنزلوا بهَجَر، وأرسل العلاء إلى الجارود يأمره أنْ ينزل بعبد القيس على الحطم مما يليه، وسار هو فيمن معه حتى نزل عليه مما يلي هجر فاجتمع المشركون كلهم إلى الحطم إلا أهل دارين، واجتمع المسلمون إلى العلاء، وخندق المسلمون على أنفسهم والمشركون، وكانوا يتراوحون القتال ويرجعون إلى خندقهم فكانوا كذلك شهراً، فبيناهم كذلك إذْ سمع المسلمون ضوضاء هزيمة أو قتال، فقال العلاء: من يأتينا بخبر القوم؟ فقال عبد الله بنَ حذف: أنا. فخرج حتى دنا من خندقهم فأخذوه، وكانت أمه عجلية فجعل ينادي يا أبجراه. فجاء أبجر بن بجير فعرفه فقال: ما شأنك؟ فقال: علام أقتل وحولي عساكر من عِجْل وتَيم اللات وغيرها؟ فخلَّصه، فقال له: والله إني لأظنك بئس ابن أخت أتيتَ الليلة أخوالك. فقال: دعني من هذا وأطعمني فقد مِتُ جوعاً فقرب له طعاماً فأكل، ثم قال: زودني واحملني يقول هذا لرجل قد غلب عليه السكر فحمله على بعير وزوده وجوزه فدخل عسكر المسلمين فأخبرهم أنّ القوم سكارى، فخرج المسلمون عليهم فوضعوا فيهم السيف كيف شاؤوا، وهرب الكفار فمن بين مترد، وناج ومقتول، ومأسور، واستولى المسلمون على العسكر ولم يفلت رجل إلا بما عليه.
فأما أبجر فأفلت، وأما الحطم فقتل قتله قيس بن عاصم بعد أن قطع عفيف بن المنذر التميمي رجله، وطلبهم المسلمون، فأسر عفيف المنذر بن النعمان بن المنذر الغرور فأسلم، وأصبح العلاء فقسم الأنفال، ونقل رجالاً من أهل البلاء ثياباً فأعطى ثمامة بن أثال الحنفي خميصة ذات أعلام كانت للحطم يباهي بها، فلما رجع ثمامة بعد فتح دارين رآها بنو قيس بن ثعلبة فقالوا له: أنت قتلت الحطم. فقال: لم أقتله ولكني اشتريتها من المغنم.
فوثبوا عليه فقتلوه.
وقصد عظم الفلال إلى دارين فركبوا إليها السفن، ولحق الباقون ببلاد قومهم، فكتب العلاء إلى من ثبت على إسلامه من بكر بن وائل منهم عتيبة بن النهاس، والمثنى بن حارثة، وغيرهما يأمرهم بالقعود للمنهزمين والمرتدين بكل طريق، ففعلوا وجاءت رسلهم إِلى العلاء بذلك فأمر أنْ يؤتى من وراء ظهره فندب حينئذ الناس إلى دارين، وقال لهم: قد أراكم الله من آياته في البر لتعتبروا بها في البحر فانهضوا إلى عدوكم، واستعرِضوا البحر. وارتحل وارتحلوا حتى اقتحم البحر على الخيل والإبل والحمير وغير ذلك، وفيهم الراجل ودعا ودعوا وكان من دعائهم:(يا أرحم الراحمين،يا كريم يا حليم، يا أحد، يا صمد، يا حيّ، يا محي الموتى، يا حي، يا قيوم، لا إله إلا أنت، يا ربنا. فاجتازوا ذلك الخليج بإذن الله يمشون على مثل رملة فوقها ماء يغمر أخفاف الِإبل، وبين الساحل ودارين يوم وليلة بسفن البحر فالتقوا واقتتلوا قتالاً شديداً فظفر المسلمون؛ وانهزم المشركون؛ وأكثر المسلمون القتل فيهم فما تركوا بها مخبراً وغنموا وسبوا، فلما فرغوا رجعوا حتى عبروا وضرب الِإسلام فيها بجرانه.
وكتب العلاء إلى أبي بكر يعرّفه هزيمة المرتدين، وقتل الحطم، وكان مع المسلمين راهب من أهل هجر فأسلم فقيل له: ما حملك على الاسلام؟ قال: ثلاثة أشياء: خشيتُ أن يمسخني الله بعدها فيض في الرمال، وتمهيد أثباج البحر، ودعاء سمعتُه في عسكرهم في الهواء سحراً: اللهم أنت الرحمن الرحيم، لا إله غيرك، والبديع فليس قبلك شيء، والدائم غير الغافل، الحي الذي لا يموت، وخالق ما يرى وما لا يرى وكل يوم أنت في شأن، علمت كل شيء بغير تعلم. فعلمتُ أنّ القوم لم يعانوا بالملائكة إلا وهم على حق، فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يسمعون هذا منه بعد( ).
ذكر ردة أهل البحرين وعودهم إلى الاسلام
كان من خبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد بعث العلاء بن الحضرمي إلى ملكها، المنذر بن ساوي العبدي، وأسلم على يديه وأقام فيهم الاسلام والعدل، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، توفي المنذر بعده بقليل، وكان قد حضر عنده في مرضه عمرو بن العاص، فقال له: يا عمرو هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجعل للمريض شيئا من ماله؟
قال: نعم، الثلث، قال: ماذا أصنع به؟
قال: إن شئت تصدقت به على أقربائك، وإن شئت على المحاويج، وإن شئت جعلته صدقة من بعدك حبسا محرما، فقال: إني أكره أن أجعله كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام، ولكني أتصدق به، ففعل، ومات فكان عمرو بن العاص يتعجب منه، فلما مات المنذر ارتد أهل البحرين وملكوا عليهم الغرور، وهو المنذر بن النعمان بن المنذر. وقال قائلهم: لو كان محمد نبيا ما مات، ولم يبق بها بلدة على الثبات سوى قرية يقال لها جواثا، كانت أول قرية أقامت الجمعة من أهل الردة كما ثبت ذلك في البخاري عن ابن عباس، وقد حاصرهم المرتدون وضيقوا عليهم، حتى منعوا من الأقوات وجاعوا جوعا شديدا حتى فرج الله، وقد قال رجل منهم يقال له عبد الله بن حذف، أحد بني بكر بن كلاب، وقد اشتد عليه الجوع:
ألا أبلغ أبا بكر رسولا * وفتيان المدينة أجمعينا
فهل لكم إلى قوم كرام * قعود في جواثا محصرينا
كأن دماءهم في كل فج * شعاع الشمس يغشى الناظرينا
توكلنا على الرحمن إنا * قد وجدنا الصبر للمتوكلينا (3 )
وقد قام فيهم رجل من أشرافهم، وهو الجارود بن المعلى - وكان ممن هاجروا إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم - خطيبا وقد جمعهم فقال: يا معشر عبد القيس، إني سائلكم عن أمر فأخبروني إن علمتوه، ولا تجيبوني إن لم تعلموه، فقالوا: سل، قال: أتعلمون أنه كان لله أنبياء قبل محمد؟
قالوا: نعم، قال: تعلمونه أم ترونه ؟
قالوا: نعلمه، قال: فما فعلوا ؟
قالوا: ماتوا، قال :فإن محمدا صلى الله عليه وسلم مات كما ماتوا وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فقالوا: ونحن أيضا نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأنت أفضلنا وسيدنا، وثبتوا على إسلامهم ،وتركوا بقية الناس فيما هم فيه، وبعث الصديق رضي الله عنه كما قدمنا إليهم العلاء بن الحضرمي، فلما دنا من البحرين جاء إليه ثمامة بن أثال في محفل كبير، وجاء كل أمراء تلك النواحي فانضافوا إلى جيش العلاء بن الحضرمي، فأكرمهم العلاء وترحب بهم وأحسن إليهم ،وقد كان العلاء من سادات الصحابة العلماء العباد مجابي الدعوة، اتفق له في هذه الغزوة أنه نزل منزلا فلم يستقر الناس على الأرض حتى نفرت الإبل بما عليها من زاد الجيش وخيامهم وشرابهم ،وبقوا على الأرض ليس معهم شئ سوى ثيابهم - وذلك ليلا - ولم يقدروا منها على بعير واحد ،فركب الناس من الهم والغم مالا يحد ولا يوصف، وجعل بعضهم يوصي إلى بعض، فنادى منادي العلاء فاجتمع الناس إليه، فقال: أيها الناس ألستم المسلمين؟ ألستم في سبيل الله ؟ألستم أنصار الله؟
قالوا: بلى، قال: فأبشروا فوالله لا يخذل الله من كان في مثل حالكم، ونودي بصلاة الصبح حين طلع الفجر فصلى بالناس، فلما قضى الصلاة جثا على ركبتيه وجثا الناس ،ونصب في الدعاء ورفع يديه وفعل الناس مثله حتى طلعت الشمس، وجعل الناس ينظرون إلى سراب الشمس يلمع مرة بعد أخرى وهو يجتهد في الدعاء فلما بلغ الثالثة إذا قد خلق الله إلى جانبهم غديرا عظيما من الماء القراح، فمشى الناس إليه فشربوا واغتسلوا، فما تعالى النهار حتى أقبلت الإبل من كل فج بما عليها، لم يفقد الناس من أمتعتهم سلكا، فسقوا الإبل عللا بعد نهل. فكان هذا مما عاين الناس من آيات الله بهذه السرية، ثم لما اقترب من جيوش المرتدة –وقد حشدوا وجمعوا خلقا عظيما- نزل ونزلوا، وباتوا متجاورين في المنازل، فبينما المسلمون في الليل إذ سمع العلاء أصواتا عالية في جيش المرتدين، فقال: من رجل يكشف لنا خبر هؤلاء؟
فقام عبد الله بن حذف فدخل فيهم فوجدهم سكارى لا يعقلون من الشراب، فرجع إليه فأخبره، فركب العلاء من فوره والجيش معه فكبسوا أولئك فقتلوهم قتلا عظيما، وقل من هرب منهم ،واستولى على جميع أموالهم وحواصلهم وأثقالهم، فكانت غنيمة عظيمة جسيمة، وكان الحطم بن ضبيعة أخو بني قيس بن ثعلبة من سادات القوم نائما، فقام دهشا حين اقتحم المسلمون عليهم فركب جواده فانقطع ركابه فجعل يقول: من يصلح لي ركابي؟ فجاء رجل من المسلمين في الليل فقال: أن أصلحها لك، ارفع رجلك، فلما رفعها ضربه بالسيف فقطعها مع قدمه، فقال له: أجهز علي، فقال: لا أفعل، فوقع صريعا كلما مر به أحد يسأله أن يقتله فيأبى، حتى مر به قيس بن عاصم فقال له: أنا الحطم فاقتلني فقتله، فلما وجد رجله مقطوعة ندم على قتله وقال: وا سوأتاه، لو أعلم ما به لم أحركه، ثم ركب المسلمون في آثار المنهزمين، يقتلونهم بكل مرصد وطريق، وذهب من فر منهم أو أكثرهم في البحر إلى دارين ركبوا إليها السفن، ثم شرع العلاء بن الحضرمي في قسم الغنيمة ونقل الأثقال وفرغ من ذلك وقال للمسلمين: اذهبوا بنا إلى دارين لنغزو من بها من الأعداء، فأجابوا إلى ذلك سريعا، فاسر بهم حتى أتى ساحل البحر ليركبوا في السفن، فرأى أن الشقة بعيدة لا يصلون إليهم في السفن حتى يذهب أعداء الله، فاقتحم البحر بفرسه وهو يقول: يا أرحم الراحمين، يا حكيم يا كريم، يا أحد يا صمد، يا حيي يا محي، يا
قيوم يا ذا الجلال والاكرام لا إله إلا أنت يا ربنا. وأمر الجيش أن يقولوا ذلك ويقتحموا، ففعلوا ذلك فأجاز بهم الخليج بإذن الله يمشون على مثل رملة دمثة (1) فوقها ماء لا يغمر أخفاف الإبل، ولا يصل إلى ركب الخيل، ومسيرته للسفن يوم وليلة، فقطعه إلى الساحل الآخر فقاتل عدوه وقهرهم واحتاز غنائمهم ثم رجع فقطعه إلى الجانب الآخر فعاد إلى موضعه الأول، وذلك كله في يوم، ولم يترك من العدو مخبرا، واستاق الذراري والانعام والأموال، ولم يفقد المسلمون في البحر شيئا سوى عليقة فرس لرجل من المسلمين ومع هذا رجع العلاء فجاءه بها، ثم قسم غنائم المسلمين فيهم ،فأصاب الفارس ألفين والراجل ألفا (2)، مع كثرة الجيش، وكتب إلى الصديق فأعلمه بذلك ،فبعث الصديق يشكره على ما صنع، وقد قال رجل من المسلمين في مرورهم في البحر، وهو عفيف بن المنذر :
ألم تر أن الله ذلل بحره * وأنزل بالكفار إحدى الجلائل
دعونا إلى شق البحار فجاءنا * بأعجب من فلق البحار الأوائل
وقد ذكر سيف بن عمر التميمي أنه كان مع المسلمين في هذه المواقف والمشاهد التي رأوها من أمر العلاء، وما أجرى الله على يديه من الكرامات، رجل من أهل هجر راهب فأسلم حينئذ، فقيل له: ما دعاك إلى الاسلام؟ فقال: خشيت إن لم أفعل أن يمسخني الله (3)، لما شاهدت من الآيات، قال: وقد سمعت في الهواء وقت السحر دعاء، قالوا: وما هو؟ قال :اللهم أنت الرحمن الرحيم، لا إله غيرك والبديع ليس قبلك شئ، والدائم غير الغافل، والذي لا يموت (4)، وخالق ما يرى وما لا يرى، وكل يوم أنت في شأن، وعلمت اللهم كل شئ علما ،قال: فعلمت أن القوم لم يعانوا بالملائكة إلا وهم على أمر الله، قال: فحسن إسلامه وكان الصحابة يسمعون منه( ).
قال أبو جعفر: وقد اختلف في تاريخ حرب المسلمين هؤلاء فقال محمد ابن إسحاق فيما حدثنا ابن حميد عن سلمة عنه كان فتح اليمامة واليمن والبحرين وبعث الجنود لي الشام في سنة اثنى عشرة وأما أبو زيد فحدثني عن أبي الحسن المدائني في خبر ذكره عن أبي معشر ويزيد بن عياض بن جعدبة وأبى عبيدة بن محمد ابن أبي عبيدة وغسان بن عبد الحميد وجويرية بن أسماء بإسنادهم عن مشيختهم وغيرهم من علماء أهل الشأم وأهل العراق أن الفتوح في أهل الردة كلها كانت لخالد بن الوليد وغيره وفى سنة إحدى عشرة إلا أمر ربيعة بن بجير فإنه كان في سنة ثلاث عشرة وقصة ربيعة بن بجير التغلبي أن خالد بن الوليد فيما ذكر في خبره هذا الذي ذكرت عنه بالمصيخ والحصيد فقام ربيعة وهو في جمع من المرتدين فقاتله وغنم وسبى وأصاب ابنة لربيعة بن بجير فسباها وبعث بالسبي إلى أبى بكر رحمه الله فصارت ابنة ربيعة إلى علي بن أبي طالب عليه السلام (فأما) أمر عمان فإنه كان فيما كتب إلى السرى بن يحيى يخبرني عن شعيب عن سيف عن سهل بن يوسف عن القاسم بن محمد والغصن بن القاسم وموسى الجليوسي عن ابن محيريز قالوا نبغ بعمان ذو التاج لقيط بن مالك الأزدي وكان يسامي في الجاهلية الجلندي وادعى بمثل ما ادعى به من كان نبيا وغلب على عمان مرتدا وألجأ جيفرا وعبادا إلى الأجبال والبحر فبعث جيفر إلى أبى بكر يخبره بذلك ويستجيشه عليه فبعث أبو بكر الصديق حذيفة بن محصن الغلفاني من حمير وعرفجة البارقي من الأزد، حذيفة إلى عمان وعرفجة إلى مهرة وأمرهما إذا اتفقا أن يجتمعا على من بعثا إليه وأن يبتدئا بعمان وحذيفة على عرفجة في وجهه وعرفجة على حذيفة غي وجهه فخرجا متساندين وأمرهما أن يجدا السير حتى يقدما عمان فإذا كانا منها قريبا كاتبا جيفرا وعبادا وعملا برأيهما فمضيا لما أمرا به وقد كان أبو بكر بعث عكرمة إلى مسيلمة باليمامة واتبعه شرحبيل بن حسنة وسمى له اليمامة وأمرهما بما أمر به حذيفة وعرفجة فبادر عكرمة شرحبيل وطلب حظوة الظفر فكلمه مسيلمة فأحجم عن مسيلمة وكتب إلى أبى بكر بالخبر وأقام شرحبيل عليه حيث بلغه الخبر وكتب أبو بكر إلى شرحبيل بن حسنة أن أقم بأذني اليمامة حتى يأتيك أمري وترك أن يمضيه لوجهه الذي وجهه له وكتب إلى عكرمة يعنفه لتسرعه ويقول لا أرينك ولا أسمعن بك إلا بعد بلاء والحق بعمان حتى تقاتل أهل عمان وتعين حذيفة وعرفجة وكل واحد منكم على خيله وحذيفة ما دمتم في عمله على الناس( ).
لما قدم الجارود بن المعلى العبدي على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتفقّه ردّه إلى قومه عبد القيس فكان فيهم.
فلما مات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكان المنذر بن ساوى العبدي مريضًا فمات بعد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقليل.
فلما مات المنذر بن ساوى ارتد بعده أهل البحرين فأما بكر فتمت على ردتها وأما عبد القيس فإنهم جمعهم الجارود وكان بلغه أنهم قالوا: لو كان محمد نبيًا لم يمت.
فلما اجتمعوا إليه قال لهم: أتعلمون أنه كان لله أنبياء فيما مضى قالوا: نعم.
قال: فما فعلوا قالوا: ماتوا.
قال: فإن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد مات كما ماتوا وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
فأسلموا وثبتوا على إسلامهم.
وحصرهم أصحاب المنذر بعده حتى استنقذهم العلاء بن الحضرمي.
واجتمعت ربيعة بالبحرين على الردة إلا الجارود ومن تبعه وقالوا: نرد الملك في المنذر بن النعمان بن المنذر وكان يسمى الغرور.
فلما أسلم كان يقول: أنا المغرور ولست بالغرور.
وخرج الحطم بن ضبيعة أخو بني قيس بن ثعلبة في بكر بن وائل فاجتمع إليه من غير المرتدين ممن لم يزل مشركًا حتى نزل القطيف وهجر واستغووا الخط ومن بها من الزط والسبابجة وبعث بعثًا إلى دارين وبعث إلى جواثا فحصر المسلمين فاشتد الحصر على من بها فقال عبد الله بن حذف وقد قتلهم الجوع: ألا أبلغ أبا بكرٍ رسولًا وفتيان المدينة أجمعينا فهل لكم إلى قومٍ كرامٍ قعودٍ في جواثا محصرينا كأن دماءهم في كل فجٍّ شعاع الشمس يغشى الناظرينا توكلنا على الرحمن إنا وجدنا النصر للمتوكلينا وكان سبب استنقاذ العلاء بن الحضرمي إياهم أن أبا بكر كان قد بعثه على قتال أهل الردة بالبحرين فلما كان بحيال اليمامة لحق به ثمامة بن أثال الحنفي في مسلمة بني حنيفة ولحق به أيضًا قيس بن عاصم المنقري وأعطاه بدل ما كان قسم من الصدقة من موت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وانضم إليه عمرو والأبناء وسعد بن تميم والرباب أيضًا لحقته في مثل عدته فسلك بهم الدهناء حتى إذا كانوا في بحبوحتها نزل وأمر الناس بالنزول في الليل فنفرت إبلهم بأحمالها فما بقي عندهم بعير ولا زاد ولا ماء فلحقهم من الغم ما لا يعلمه إلا الله ووصى بعضهم بعضًا فدعاهم العلاء فاجتمعوا إليه فقال: ما هذا الذي غلب عليكم من الغم فقالوا: كيف نلام ونحن إن بلغنا غدًا لم تحم الشمس حتى نهلك.
فقال: لن تراعوا أنتم المسلمون وفي سبيل الله وأنصار الله فأبشروا فوالله لن تخذلوا.
فلما صلوا الصبح دعا العلاء ودعوا معه فلمع لهم الماء فمشوا إليه وشربوا واغتسلوا.
فما تعالى النهار حتى أقبلت الإبل تجمع من كل وجه فأناخت إليهم فسقوها.
وكان أبو هريرة فيهم فلما ساروا عن ذلك المكان قال لمجاب بن راشد: كيف علمك بموضع الماء قال: عارف به.
فقال له: كن معي حتى تقيمني عليه.
قال: فرجعت به إلى ذلك المكان فلم نجد إلا غدير الماء فقلت له: والله لولا الغدير لأخبرتك أن هذا هو المكان وما رأيت بهذا المكان ماء قبل اليوم وإذا إداوة مملوة ماء.
فقال أبو هريرة: هذا والله المكان ولهذا رجعت بك وملأت إداوتي ثم وضعتها على شفير الغدير وقلت: إن كان منا من المن عرفته وإن كان عينًا عرفته فإذا من المن فحمد الله.
ثم ساروا فنزلوا بهجر وأرسل العلاء إلى الجارود يأمره أن ينزل بعبد القيس على الحطم مما يليه وسار هو فيمن معه حتى نزل عليه مما يلي هجر فاجتمع المشركون كلهم إلى الحطم إلا أهل دارين واجتمع المسلمون إلى العلاء وخندق المسلمون على أنفسهم والمشركون وكانوا يتراوحون القتال ويرجعون إلى خندقهم فكانوا كذلك شهرًا.
فبينا هم كذلك سمع المسلمون ضوضاء هزيمة أو قتال العلاء: من يأتينا بخبر القوم فقال عبد الله بن حذف: أنا فخرج حتى دنا من خندقهم فأخذوه.
وكانت أمه عجلية فجعل ينادي: يا أبجراه! فجاء أبجر من بجير فعرفه فقال: ما شأنك فقال: علام أقبل وحولي عساكر من عجل وتيم اللات وغيرهما فلخصه فقال له: والله إني لأظنك بئس ابن أخت أتيت الليلة أخوالك.
فقال: دعني من هذا وأطعمني فقد مت جوعًا.
فقرب له طعامًا فأكل ثم قال: زودني واحملني يقول هذا الرجل قد غلب عليه السكر فحمله على بعير وزوده وجوزه فدخل عسكر المسلمين فأخبرهم أن القوم سكارى فخرج المسلمون عليهم فوضعوا فيهم السيف كيف شاؤوا وهرب الكفار فمن بين فأما أبجر فأفلت وأما الحطم فقتل قتله قيس بن عاصم بعد أن قطع عفيف بن المنذر التميمي رجله.
وطلبهم المسلمون فأسر عفيفٌ المنذر بن النعمان بن المنذر الغرور فأسلم.
وأصبح العلاء فقسم الأنفال ونفل رجالًا من أهل البلاء ثيابًا فأعطى ثمامة بن أثال الحنفي خميصة ذات أعلام كانت للحطم يباهي بها.
فلما رجع ثمامة بعد فتح دارين رآها بنو قيس بن ثعلبة فقالوا له: أنت قتلت الحطم! فقال: لم أقتله ولكني اشتريتها من المغنم.
فوثبوا عليه فقتلوه.
وقصد عظم الفلال إلى دارين فركبوا إليها السفن ولحق الباقون ببلاد قومهم.
فكتب العلاء إلى من ثبت على إسلامه من بكر بن وائل منهم عتيبة ابن النهاس والمثنى بن حارثة وغيرهما يأمرهما بالقعود للمنهزمين والمرتدين بكل طريق ففعلوا وجاءت رسلهم إلى العلاء بذلك فأمر أن يؤتى من وراء ظهره فندب حينئذٍ الناس إلى دارين وقال لهم: قد أراكم الله من آياته في البر لتعتبروا بها في البحر فانهضوا إلى عدوكم واستعرضوا البحر.
وارتحل وارتحلوا حتى اقتحم البحر على الخيل والإبل والحمير وغير ذلك وفيهم الراجل ودعا ودعوا.
وكان من دعائهم: (يا أرحم الراحمين يا كريم يا حليم يا أحد يا صمد يا حي يا محيي الموتى يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت يا ربنا)! فاجتازوا ذلك الخليج بإذن الله يمشون على مثل رملة فوقها ماء يغمر أخفاف الإبل وبين الساحل ودارين يوم وليلة لسفن البحر فالتقوا واقتتلوا قتالًا شديدًا فظفر المسلمون وانهزم المشركون وأكثر المسلمون القتل فيهم فما تركوا بها مخبرًا وغنموا وسبوا فلما فرغوا رجعوا حتى عبروا وضرب الإسلام فيها بجرانه.
وكتب العلاء إلى أبي بكر يعرفه هزيمة المرتدين وقتل الحطم.
وكان مع المسلمين راهب من أهل هجر فأسلم فقيل له: ما حملك على الإسلام قال: ثلاثة أشياء خشيت أن يمسخني الله بعدها: فيض في الرمال وتمهيد أثباج البحر ودعاء سمعته في عسكرهم في الهواء سحرًا: (اللهم أنت الرحمن الرحيم لا إله غيرك والبديع فليس قبلك شيء والدائم غير الغافل الحي الذي لا يموت وخالق ما يرى وما لا يرى وكل يوم أنت في شأن علمت كل شيء بغير علم).
فعلمت أن القوم لم يعانوا بالملائكة إلا وهم على حق فكان أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يسمعون هذا منه بعد( ).
(1)الكامل في التأريخ:2/368-372.
(2)البداية والنهاية:6/361-364.
(3)تاريخ الطبري:2/519-528.
(4)الكامل في التاريخ لابن الأثير:2/369-371.
تم ارسال رسالتك بنجاح