بدأت وفود القبائل من العرب تأتي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل فتح مكة، إلا أن الوفادة في صورة متوالية مستمرة وقعت بعد عام الفتح في العام التاسع من الهجرة النبوية، ولذلك سميت السنة التاسعة من الهجرة بعام الوفود. وقد اهتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتلك الوفود وحرص على تعليمها أمور دينها، وكان يبعث مع بعضهم من يعلمهم أحكام دينهم.
ومن ضمن هذه الوفود التي أتت إلى النبي صلى الله عليه وآله و سلم، وفد قبيلة عبد القيس، من البحرين القديمة. قال ابن حجر "وهي قبيلة كبيرة يسكنون البحرين (البحرين، القطيف والأحساء الآن)، يُنسبون إلى عبد القيس"، وكانت لهذه القبيلة وفادتان: الأولى في العام الخامس من الهجرة النبوية، والثانية في العام التاسع بعد فتح مكة.
لقد شهد الوفد البحريني، القطيفي، الأحسائي أحاديث عن الرسول (ص)، ننقلها ونقدّم شروحاتها في هذا البحث الوجيز.
الحديث
حدّثني إسْحَاقُ أخبرَنا أبُو عامِرٍ العَقَدِيُّ حدثنا قُرَّةُ عنْ أبي جَمْرَةَ قُلْتُ لابْنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما: إنَّ لِي جرَّةً يُنْتَبَذُ لي فِيها نَبِيذٌ فأشْرَبُهُ حُلْواً في جَرٍّ إن أكْثَرْتُ مِنْهُ، فَجالَسْتُ القَوْمَ فأطلْتُ الجُلُوسَ خَشِيتُ أنْ أفْتَضِحَ، فقال: قَدِمَ وفْدُ عبْدِ القَيْسِ علَى رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: مَرْحباً بالْقَوْمِ غيرَ خَزَايا ولا النَّدَامَى.
فقالُوا: يا رسُولَ الله إنَّ بَيْنَنَا وبَيْنَكَ المُشْرِكِينَ مِنْ مُضَرَ وإنّا لا نَصِلُ إليْكَ إلا في أشْهُرِ الحُرُمِ حَدِّثْنا بِجُمَلٍ مِنَ الأمْرِ إنْ عَمِلْنا بهِ دَخَلْنا الجَنَّةَ ونَدْعُو بهِ مَنْ وَرَاءَنا قال آمُرُكُمْ بأرْبَعٍ وأنْهاكُمْ عنْ أرْبَعٍ الإيمانُ بالله هَلْ تَدْرُونَ ما الإيمانُ الله شَهادَةُ أنْ لا إلاهَ إلاَّ الله وإقامُ الصَّلاَةِ وإيتاءُ الزَّكاةِ وصَوْمُ رَمضان وأنْ تُعْطُوا مِنَ المَغانِمِ الخُمسَ وأنْهاكُمْ عنْ أرْبَعٍ ما انْتُبِذَ في الدُّباءِ والنِّقيرِ والحَنْتَمِ والمُزَفَّتِ...
شرح الحديث
قوله: (إن لي جرة)، ويروى: إن لي جارية، فإن صحت هذه الرواية، فقوله: تنتبذ، بتاء المضارعة للمؤنث، وعلى الرواية المشهورة تكون: ننتبذ، بنون المتكلّم.
قوله: (في جر) يتعلق بمحذوف هو صفة جرة المذكورة تقديره: إنّ لي جرّة كانت في جملة جرار، وقال الجوهري: الجرّة من الخزف والجمع جرر وجرار .
قوله: (خشيت) جواب: إن، معناه: إن أكثرت من نبيذ الجر فجالست الناس وطال جلوسي خشيت أن افتضح، لما أكاد تشتبه أفعالي وأقوالي بالسكارى، ومعنى البقية قد مر في الباب المذكور(1) .
الحديث
حدّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ حدّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عنْ أبي جَمْرَةَ، قال: سَمِعْتُ ابنَ عَبَّاسٍ يقُولُ: قَدِمَ وَفْدُ عبْدِ القَيْسِ عَلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقَالُوا: يا رسولَ الله إنَّا هَذا الحَيَّ مِنْ رَبِيعَةَ وقَدْ حالَتْ بَيْنَنَا وبيْنَكَ كُفّارُ مُضَرَ فَلَسْنا نَخْلُصُ إليْكَ إلاَّ في شَهْرٍ حَرَامٍ فمُرْنا بأشيْاءَ نأخُذُ بهَا ونَدْعُوا إلَيْهَا مَنْ وَرَاءَنا قال آمُرُكُمْ بأرْبَعٍ وَأنْهَاكُمْ عنْ أرْبَعٍ الإيمَانِ بالله شَهَادَةِ أنْ لا إلاهَ إلاَّ الله وعَقَدَ وَاحِدَةً وإقامِ الصَّلاَةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ وأنْ تُؤْدُّوا لله خُمُسَ ما غَنِمْتُمْ وأنْهاكُمْ عنِ الدُبَّاءِ والنَّقِيرِ والخنْتَمِ والمُزَفَّتِ . .
شرح الحديث
هذا طريق آخر في حديث ابن عباس.
قوله: (من ربيعة)، هو ابن نزار بن معد بن عدنان، قال الرشاطي: ربيعة هذا شعب واسع فإنه قبائل وعمائر وبطون وأفخاذ.
قوله: (إنا هذا الحي)، أراد به عبد القيس، وأسقط في هذا : صوم رمضان، لأن الظاهر أن القصة وقعت مرتين، ففي المرة الأولى ذكر ما الأمر فيه أهم بالنسبة إليهم أو نسيه الراوي(1) .
الحديث
حدّثنا عبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ الجُعْفِيُّ حدّثنا أبُو عامِرٍ عبْدُ المَلِكِ حدّثنا إبْرَاهِيمُ هُوَ ابنُ طهْمانَ عنْ أبي جَمْرَةَ عنِ ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما، قال: أوَّلُ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ بَعْدَ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ في مَسْجِدِ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم في مَسْجِد عبْدِ القَيْسِ بِجُوَاثَي يَعْني قَرْيَةً مِنَ البَحْرَيْ.
تعليق
ذكر هذا هنا لأجل ذكر عبد القيس فيه، وفيه فضيلة لعبد القيس أيضا، وأبو جمرة بالجيم مر عن قريب ، وجواثي ، بضم الجيم وتخفيف الواو وفتح الثاء المثلثة مقصوراً : حصن قريب من البصرة، والبحرين موضع بساحل بحر عمان(1) .
شرح صحيح مسلم للنووي
قوله: (قدم وفد عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) .
قال صاحب التحرير: الوفد الجماعة المختارة من القوم ليتقدموهم في لقى العظماء والمصير إليهم في المهمات واحدهم وافد، قال: وفد عبد القيس هؤلاء تقدموا قبائل عبد القيس للمهاجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكانوا أربعة عشر راكبا الأشج العصري رئيسهم، ومزيدة بن مالك المحاربي، وعبيدة بن همام المحاربي، وصحار بن العباس المري، عمرو بن مرحوم العصري، والحارث بن شعيب العصري، والحارث بن جندب من بنى
عايش، ولم نعثر بعد طول التتبع على أكثر من أسماء هؤلاء.
قال: وكان سبب وفودهم: أنّ منقذ ابن حيان أحد بنى غنم بن وديعة كان متجره إلى يثرب في الجاهلية، فشخص إلى يثرب بملاحف وتمر من هجر بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فبينا منقذ بن حيان قاعد إذ مر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنهض منقذ إليه، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أمنقذ بن حيان كيف جميع هيئتك وقومك؟
ثم سأله عن أشرافهم رجل رجل يسميهم بأسمائهم، فأسلم منقذ وتعلم سورة الفاتحة واقرأ باسم ربك، ثم رحل قبل هجر، فكتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم معه إلى جماعة عبد القيس كتابا فذهب به وكتمه أياما، ثم اطلعت عليه امرأته وهي بنت المنذر بن عائذ- بالذال المعجمة- ابن الحارث والمنذر هو الأشج سمّاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم به لأثر كان في وجهه وكان منقذ رضي الله عنه-يصلى ويقرأ فنكرت امرأته ذلك، فذكرته لأبيها المنذر، فقالت: أنكرت بعلى منذ قدم من يثرب أنه يغسل أطرافه ويستقبل الجهة تعنى القبلة فيحنى ظهره مرة ويضع جبنه مرة ذلك ديدنه منذ قدم فتلاقيا فتجاريا ذلك فوقع الاسلام في قلبه، ثم ثار الأشج إلى قومه عصر ومحارب بكتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقرأه عليهم، فوقع الاسلام في قلوبهم وأجمعوا على السير إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فسار الوافد، فلما دنوا من المدينة، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لجلسائه: أتاكم وفد عبد القيس خير أهل المشرق- وفيهم الأشج العصري- غير ناكثين ولا مبدلين، ولا مرتابين، إذ لم يسلم قوم حتى وتروا.
قال: وقولهم: (انا هذا الحي من ربيعة) لأنه عبد القيس ابن أفصى يعنى- بفتح الهمزة وبالفاء والصاد المهملة المفتوحة- ابن دعمي بن جديلة بن أسد ابن ربيعة بن نزار.
وكانوا ينزلون البحرين -الخط وأعنابها وسرة القطيف والسفار والظهران إلى لرمل إلى الاجرع ما بين هجر إلى قصر وبينونة ثم الجوف والعيون والأحساء إلى حد أطراف
الدهنا وسائر بلادها ما ذكره صاحب التحرير-.
قولهم: إنّا هذا الحي، فالحي منصوب على التخصيص، قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: الذي نختاره نصب الحي على التخصيص، ويكون الخبر في قولهم: من ربيعة، ومعناه: انا هذا الحي حي من ربيعة، وقد جاء بعد هذا في الرواية الأخرى: انا حي بن ربيعة.
وأما معنى الحي، فقال صاحب المطالع: الحي اسم لمنزل القبيلة، ثم سُمّيت القبيلة به لأن بعضهم يحيا ببعض.
قولهم: (وقد حالت بيننا وبينك كفار مضر) سببه أن كفار مضر كانوا بينهم وبين المدينة، فلا يمكنهم الوصول إلى المدينة الا عليهم.
قولهم: (ولا نخلص إليك الا في شهر الحرام) معنى نخلص نصل، ومعنى كلامهم: انا لا نقدر على الوصول إليك خوفا من أعدائنا الكفار الا في الشهر الحرام، فإنهم لا يتعرضون لنا كما كانت عادة العرب من تعظيم الأشهر الحرم وامتناعهم من القتال فيها.
وقولهم: شهر الحرام: كذا هو في الأصول كلها، بإضافة شهر إلى الحرام، وفى الرواية الأخرى: أشهر الحرم، والقول فيه كالقول في نظائره من قولهم: مسجد الجامع، وصلاة الأولى، ومنه قول الله تعالى: الغربي.
قوله: الآخرة: فعلى مذهب النحويين الكوفيين هو من إضافة الموصوف إلى صفته، وهو جائز عندهم.
وعلى مذهب البصريين: لا تجوز هذه الإضافة ولكن هذا كله عندهم على حذف في الكلام للعلم به، فتقديره: شهر الوقت الحرام، وأشهر الأوقات الحرم، ومسجد المكان الجامع، ودار الحياة الآخرة، وجانب المكان الغربي ونحو ذلك والله أعلم.
ثم إنّ قولهم: شهر الحرام، المراد به جنس الأشهر الحرم وهي أربعة أشهر حرم كما نص عليه القرآن العزيز، وتدل عليه الرواية الأخرى بعد هذه، الا في اشهر الحرم والأشهر الحرم هي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب، هذه الأربعة هي الأشهر الحرم باجماع العلماء من أصحاب الفنون، ولكن اختلفوا في الأدب المستحسن في كيفية عدّها على قولين حكاهما الإمام أبو جعفر النحاس في كتابه (صناعة الكتاب)، قال: ذهب الكوفيون إلى أنه يقال: المحرّم، ورجب، وذو القعدة، وذو الحجة.
قال: والكتاب يميلون إلى هذا القول ليأتوا بهن من سنة واحدة.
قال: وأهل المدينة يقولون: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب، وقوم ينكرون هذا ويقولون: جاءوا بهن من سنتين.
قال أبو جعفر: وهذا غلط بين وجهل باللغة لأنه قد علم المُراد، وأن المقصود ذكرها، وأنها في كل سنة فكيف يتوهّم أنها من سنتين.
قال: والأولى والاختيار ما قاله أهل المدينة، لأن الأخبار قد تظاهرت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما قالوا من رواية ابن عمر، وأبي هريرة، وأبى بكرة رضي الله عنهم.
قال: وهذا أيضا قول أكثر أهل التأويل، قال النحاس: وأُدخلت الألف والام في المحرّم دون غيره من الشهور.
قال: وجاء من الشهور ثلاثة مضافات: شهر رمضان، وشهرا ربيع، يعنى والباقي غير مضافات، وسُمّى الشهر شهراً لشهرته وظهوره والله أعلم.
وكانت وفادة عبد القيس عام الفتح قبل خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة، ونزلت فريضة الحج سنة تسع بعدها على الأشهر والله أعلم.
وأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم: وأنها كم عن الدباء، والحنتم، والنقير، والمقير، وفى رواية: المزفت بدل المقير، فنضبطه ثم نتكلم على معناه إن شاء الله تعالى.
فالدباء: بضم الدال وبالمد: وهو القرع اليابس أي الوعاء منه.
وأما الحنتم: فبحاء مهملة مفتوحة، ثم نون ساكنة، ثم تاء مثنّاة من فوق مفتوحة، ثم ميم، الواحدة حنتمة.
وأما النقير: فبالنون المفتوحة والقاف.
وأما المقير: فبفتح القاف والياء.
فأما الدباء: فقد ذكرناه.
وأما الحنتم: فاختلف فيها، فأصح الأقوال وأقواها: أنها جرار خضر، وهذا التفسير ثابت في كتاب الأشربة من صحيح مسلم عن أبي هريرة
وهو قول عبد الله بن مغفل الصحابي رضي الله عنه وبه قال الأكثرون أو كثيرون من أهل
اللغة وغريب الحديث والمحدثين والفقهاء.
والثاني: أنها الجرار كلها، قاله عبد الله بن عمر وسعيد بن جبير، وأبو سلمة.
والثالث: أنها جرار يؤتى بها من مصر مقيرات الأجواف، وروى ذلك عن أنس بن مالك رضي الله عنه، ونحوه عن ابن أبي ليلى وزاد أنها حمر.
والرابع: عن عائشة رضي الله عنها: جرار حمر أعناقها في جنوبها يجلب فيها الخمر من مصر. والخامس: عن ابن أبي ليلى أيضا: أفواهها في جنوبها يجلب فيها الخمر من الطائف، وكان ناس ينتبذون فيها يضاهون به الخمر.
والسادس: عن عطاء: جرار كانت تعمل من طين وشعر ودم.
وأما النقير: فقد جاء في تفسيره في الرواية الأخيرة أنه جذع ينقر وسطه.
وأما المقير فهو المزفت وهو المطلى بالقار وهو الزفت، وقيل: الزفت نوع من القار، والصحيح الأول، فقد صح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: المزفت هو المقير.
وأما معنى النهى عن هذه الأربع فهو: أنه نهى عن الانتباذ فيها وهو أن يجعل في الماء حبات من تمر أو زبيب أو نحوهما ليحلو ويشرب، وإنما خصت هذه بالنهي لأنه يسرع إليه الاسكار فيها فيصير حرما نجسا وتبطل ماليته، فنهى عنه لما فيه من اتلاف المال، ولأنه ربما شربه بعد اسكاره من لم يطلع عليه ولم ينه عن الانتباذ في أسقية الادم، بل أذن فيها لأنها لرقتها لا يخفى فيها المسكر بل إذا صار مسكرا شقها غالبا.
ثم إن هذا النهى كان في أول الأمر ثم نسخ بحديث بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: كنت نهيتكم عن الانتباذ الا في الأسقية فانتبذوا في كل وعاء ولا تشربوا مسكرا. رواه مسلم في الصحيح، هذا الذي ذكرناه من كونه منسوخا هو مذهبنا، ومذهب جماهير العلماء، قال الخطابي: القول بالنسخ هو أصح الأقاويل.
قال: وقال قوم: التحريم باق وكرهوا الانتباذ في هذه الأوعية، ذهب إليه مالك، وأحمد، وإسحاق، وهو مروى عن ابن عمر وعباس رضي الله عنهم والله أعلم.
قوله: (فأتته امرأة تسأله عن نبيذ الجر): أما الجر فبفتح الجيم: وهو اسم جمع الواحدة جرّة، ويجمع أيضا على جرار، وهو هذا الفخار المعروف، وفى هذا دليل على جواز استفتاء المرأة الرجال الأجانب وسماعها صوتهم وسماعهم صوتها للحاجة.
وفي قوله: إنّ وفد عبد القيس الخ دليل على أنّ مذهب ابن عباس رضي الله عنه أنّ النهى عن الانتباذ في هذه الأوعية ليس بمنسوخ بل حكمه باق، وقد قدمنا بيان الخلاف فيه قوله صلى الله عليه وآله وسلم (مرحبا بالقوم ): منصوب على المصدر استعمله العرب وأكثرت منه تريد به البر وحسن اللقاء، ومعناه: صادفت رحبا وسعة.
قوله صلى الله عليه وآله وسلم (غير خزايا ولا ندامى) هكذا هو في الأصول الندامى بالألف والام وخزايا بحذفهما وروى في غير هذا الموضع بالألف واللام فيهما وروى باسقاطهما فيهما والرواية فيه غير بنصب الراء على الحال وأشار صاحب التحرير إلى أنه يروى أيضا بكسر الراء على الصفة للقوم والمعروف الأول ويدل عليه ما جاء في رواية البخاري مرحبا بالقوم الذين جاؤوا غير خزايا ولا ندامى والله أعلم أما خزايا فجمع خزيان كحيران وحيارى وسكران وسكارى والخزيان المستحى وقيل الذليل المهان وأما الندامى فقيل: أنه جمع ندمان بمعنى نادم وهي لغة في نادم حكاها القزاز صاحب جامع اللغة والجوهري في صحاحه وعلى هذا هو على بابه وقيل هو جمع نادم اتباعا للخزايا وكان أصل نادمين فأتبع لخزايا.
تحسينا للكلام وهذا الاتباع كثير في كلام العرب وهو من فصيحه ومنه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ارجعن مأزورات غير مأجورات أتبع مأزورات لمأجورات ولو أفراد ولم يضم إليه مأجورات لقال موزورات كذا قاله الفراء وجماعات قالوا ومنه قول العرب انى لآتيه بالغدايا والعشايا جمعوا الغداة على غدايا اتباعا لعشايا ولو أفردت لم يجز الا غدوات وأما معناه فالمقصود أنه لم يكن منكم تأخر عن الاسلام ولا عناد ولا أصابكم اسار ولا سباء ولا ما أشبه ذلك مما تستحيون بسببه أو تذلون أو تهانون أو تندمون والله أعلم.
قوله: (فقالوا يا رسول الله انا نأتيك من شقة بعيدة) الشقّة بضم الشين وكسرها لغتان مشهورتان أشهرهما وأفصحهما الضم، وهي التي جاء بها القرآن العزيز قال الإمام أبوإسحاق الثعلبي: وقرأ عبيد بن عمير بكسر الشين وهي لغة قيس، والشقة السفر البعيد كذا قاله ابن السكّيت وابن قتيبة وقطرب وغيرهم، قيل سُمّيت شقة لأنها تشقّ على الانسان، وقيل: هي المسافة، وقيل: الغاية التي يخرج الإنسان إليها، فعلى القول الأول يكون قولهم بعيدة مبالغة في بعدها والله أعلم.
قولهم: ( فمرنا بأمر فصل) هو بتنوين أمر، قال الخطابي وغيره: هو البين الواضح الذي ينفصل به
المراد، ولا يشكل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (وأخبروا به من ورائكم وقال أبو بكر في روايته من وراءكم) هكذا ضبطناه، وكذا هو في الأصول الأول، بكسر الميم، والثاني بفتحها وهما يرجعان إلى معنى واحد.
قوله: (وحدثنا نصر بن علي الجهضمي) هو بفتح الجيم والضاد المعجمة واسكان الهاء بينهما
وقد تقدّم بيانه في شرح المقدمة.
قوله: (قالا جميعا) فلفظة جميعا منصوبة على الحال، ومعناه اتفقا واجتمعا على الحديث بما يذكره، اما مجتمعين في وقت واحد، واما في وقتين، ومن اعتقد أنه لابد أن يكون ذلك في وقت واحد فقد غلط غلطا بينا.
قوله: (وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأشج أشج عبد القيس: إنّ فيك لخصلتين يحبهما الله الحلم والأناة) : وأما الأشج فاسمه المنذر بن عائذ بالذال المعجمة العصري بفتح العين والصاد المهملتين هذا هو الصحيح المشهور الذي قاله ابن عبد البر والأكثرون أو الكثيرون. وقال ابن الكلبي: اسمه المنذر بن الحارث بن زياد بن عصر بن عوف، وقيل: اسمه المنذر بن عامر، وقيل: المنذر بن عبيد، وقيل: اسمه عائذ بن المنذر، وقيل: عبد الله بن عوف.
وأما الحلم فهو العقل، وأما الأناة فهي التثبّت وترك العجلة وهي مقصورة، وسبب قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ذلك له ما جاء في حديث الوفد أنهم لما وصلوا المدينة بادروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأقام الأشج عند رحالهم فجمعها وعقل ناقته ولبس أحسن ثيابه، ثم أقبل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقرّ به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأجلسه إلى جانبه، ثم قال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم: تبايعون على أنفسكم وقومكم، فقال القوم: نعم.
فقال الأشج: يا رسول الله، إنّك لم تزاول الرجل عن شيء أشد عليه من دينه نبايعك على
أنفسنا ونرسل من يدعوهم فمن اتبعنا كان منّا ومن أبى قاتلناه.
قال: صدقت إنّ فيك خصلتين الحديث.
قال القاضي عياض: فالأناة تربصه حتى نظر في مصالحه، ولم يعجل، والحلم هذا القول الذي قاله الدال على صحّة عقله وجودة نظره للعواقب.
قلت: ولا يخالف هذا ما جاء في مسند أبى يعلى وغيره أنه لما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للأشج: إنّ فيك خصلتين الحديث، قال: يا رسول الله كانا في أم حدثا؟
قال: بل قديم، قال: قلت: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبّهما.
قوله: (حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، قال: حدّثنا من لقى الوفد الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من عبد القيس، قال سعيد، وذكر قتادة أبا نضرة عن أبي سعيد الخدري) معنى هذا الكلام أنّ قتادة حدّث بهذا الحديث عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري كما جاء مبينا في الرواية التي بعد هذا من رواية ابن أبي عدى.
وأما أبو عروبة بفتح العين فاسمه مهران وهكذا يقوله أهل الحديث وغيرهم عروبة بغير ألف ولام، وقال ابن قتيبة في كتابه (أدب الكاتب) في باب ما تغيّر من أسماء الناس هو ابن أبي العروبة بالألف واللام يعنى أنّ قولهم عروبة لحن.
وذكره ابن قتيبة في كتاب (المعارف) كما ذكره غيره(2) .
فتح الباري لابن حجر
قوله: ثم قال: إنّ وفد عبد القيس بيّن مسلم من طريق غندر عن شعبة السبب في تحديث ابن عباس لأبي جمرة بهذا الحديث، فقال بعد قوله وبين الناس: فأتته امرأة تسأله عن نبيذ الجر فنهى عنه، فقلت: يا ابن عباس إنّى أنتبذ في جرة خضراء نبيذا حلوا فاشرب منه فتقرقر بطني، قال: لا تشرب منه وإن كان أحلى من العسل.
وللمصنف في أواخر المغازي من طريق قرة عن أبي جمرة، قال: قلت لابن عباس: إن لي جرة أنتبذ فيها فأشربه حلوا ان أكثرت منه، فجالست القوم فأطلت الجلوس خشيت أن أفتضح، فقال: قدم وفد عبد القيس، فلما كان أبو جمرة من عبد القيس، وكان حديثهم يشتمل على النهى عن الانتباذ في الجرار ناسب أن يذكره له، وفى هذا دليل على أنّ ابن عباس لم يبلغه نسخ تحريم الانتباذ في الجرار وهو ثابت من حديث بريدة ابن الحصيب عند مسلم وغيره.
قال القرطبي: فيه دليل على أن للمفتى ان يذكر الدليل مستغنيا به عن التنصيص على جواب الفتيا إذا كان السائل بصيرا بموضع الحجة.
قوله: لما أتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من القوم أو من الوفد -الشك من أحد الرواة- إمّا أبو جمرة أو من دونه وأظنّه شعبة فإنه في رواية قرة وغيره بغير شك وأغرب الكرماني، فقال: الشك من ابن عباس.
قال النووي: الوفد الجماعة المختارة للتقدم في لقى العظماء واحدهم وافد، قال: ووفد عبد القيس المذكورون كانوا أربعة عشر راكبا، كبيرهم الأشج ذكره صاحب التحرير في شرح مسلم وسمى منهم المنذر ابن عائذ وهو الأشج المذكور، ومنقذ بن حبان، ومزيدة بن مالك، وعمرو بن مرحوم، والحارث بن شعيب، وعبيدة بن همام، والحارث بن جندب، وصحار ابن العباس وهو بصاد مضمومة وحاء مهملتين.
قال: ولم نعثر بعد طول التتبع على أسماء الباقين.
قلت: قد ذكر ابن سعد منهم عقبة بن جروة، وفى سنن أبي داود: قيس بن النعمان العبدي، وذكره الخطيب أيضا في المبهمات وفى مسند البزار، وتاريخ ابن أبي خيثمة الجهم بن قثم، ووقع ذكره في صحيح مسلم أيضا لكن لم يسمّه، وفى مسندي أحمد وابن أبي شيبة الرستم العبدي، وفى (المعرفة) لأبي نعيم جويرية العبدي، وفى (الأدب) للبخاري الزارع بن عامر العبدي، فهؤلاء الستّة الباقون من العدد وما ذكر من أنّ الوفد كانوا أربعة عشر راكبا لم يذكر دليله.
وفى (المعرفة) لابن منده من طريق هود العصري وهو بعين وصاد مهملتين مفتوحتين نسبة إلى عصر بطن من عبد القيس عن جده لأمّه مزيدة، قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُحدّث أصحابه إذ قال لهم: سيطلع لكم من هذا الوجه ركب هم خير أهل المشرق، فقام عمر فلقى ثلاثة عشر راكبا، فرحّب وقرب، وقال: من القوم؟
قالوا: وفد عبد القيس، فيمكن أن يكون أحد المذكورين كان غير راكب أو مرتدفا، وأما ما رواه الدولابي وغيره من طريق أبى خيرة- بفتح الخاء المعجمة وسكون المثناة التحتانية وبعد الراء هاء- الصباحي وهو-بضم الصاد المهملة بعدها موحدة خفيفة وبعد الألف حاء مهملة- نسبة إلى صباح بطن من عبد القيس.
قال: كنت في الوفد الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من وفد عبد القيس، وكنا أربعين رجلا، فنهانا عن الدباء، والنقير الحديث. فيمكن أن يجمع بينه وبين الرواية الأخرى: بأنّ الثلاثة عشر كانوا رؤس الوفد، ولهذا كانوا ركبانا، وكان الباقون اتباعا، وقد وقع في جملة من الأخبار ذكر جماعة من عبد القيس زيادة على من سميته هنا منهم: أخو الزارع واسمه مطر، وابن أخته ولم يسم وروى ذلك البغوي في معجمه.
ومنهم: مشمرج السعدي، روى حديثه ابن السكن وأنه قدم مع وفد عبد القيس، ومنهم جابر بن الحارث، وخزيمة بن عبد ابن عمرو، وهمام بن ربيعة، وجارية- أوله جيم- ابن جابر، ذكرهم ابن شاهين في معجمه.
ومنهم: نوح بن مخلد جدّ أبى جمرة، وكذا أبو خيرة الصباحي كما تقدم، وإنما أطلت في هذا الفصل لقول صاحب التحرير أنه لم يظفر بعد طول التتبّع إلا بما ذكرهم.
قال ابن أبي جمرة في قوله: من القوم؟ دليل على استحباب سؤال القاصد عن نفسه ليُعرف فينزل منزلته.
قوله: قالوا ربيعة فيه التعبير عن البعض بالكل، لأنّهم بعض ربيعة، وهذا من بعض الرواة، فإن عند المصنّف في الصلاة من طريق عباد بن عباد عن أبي جمرة، فقالوا: إنّ هذا الحي من ربيعة.
قال ابن الصلاح: الحي منصوب على الاختصاص، والمعنى: أنّ هذا الحي حي من ربيعة، قال: والحي هو اسم لمنزل القبيلة، ثم سُمّيت القبيلة به لأنّ بعضهم يحيا ببعض.
قوله: (مرحبا) هو منصوب بفعل مضمر، أي: صادفت رحبا بضم الراء، أي: سعة والرحب بالفتح الشئ الواسع، وقد يزيدون معها أهلا، أي: وجدت أهلا فاستأنس.
وأفاد العسكري: أنّ أول من قال مرحبا سيف بن ذي يزن، وفيه دليل على استحباب تأنيس القادم، وقد تكرّر ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، ففي حديث أم هانئ: مرحبا بأم هانئ، وفى قصة عكرمة بن أبي جهل: مرحبا بالراكب المهاجر، وفى قصة فاطمة: مرحبا بابنتي، وكلها صحيحة.
وأخرج النسائي من حديث عاصم بن بشير الحارثي، عن أبيه: أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له لما دخل فسلم عليه: مرحبا وعليك السلام.
قوله: (غير خزايا) بنصب غير على الحال، وروى بالكسر على الصفة، والمعروف الأول قاله النووي، ويؤيده رواية المصنّف في الأدب من طريق أبى التياح عن أبي جمرة، مرحبا بالوفد الذين جاؤوا غير خزايا ولا ندامى، وخزايا جمع خزيان وهو الذي أصابه خزى، والمعنى: أنهم أسلموا طوعا من غير حرب أو سبى يخزيهم ويفضحهم.
قوله: (ولا ندامى) قال الخطابي: كان أصله نادمين جمع نادم لأنّ ندامى إنما هو جمع ندمان أي المنادم في اللهو، قال الشاعر:
فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقنى لكنه هنا خرج على الاتباع كما قالوا: العشايا والغدايا، وغداة جمعها الغدوات لكنّه اتبع انتهى.
وقد حكى القزاز والجوهري وغيرهما من أهل اللغة أنه يقال: نادم وندمان في الندامة بمعنى فعلى، هذا فهو على الأصل ولا اتباع فيه والله أعلم.
ووقع في رواية النسائي من طريق قرة، فقال: مرحبا بالوفد ليس الخزايا ولا النادمين، وهى
للطبراني من طريق شعبة أيضا.
قال ابن أبي جمرة: بشّرهم بالخير عاجلاً وآجلاً، لأنّ الندامة إنّما تكون في العاقبة، فإذا انتفت ثبت ضدّها، وفيه دليل على جواز الثناء على الانسان في وجهه إذا أمن عليه الفتنة.
قوله: (فقالوا يا رسول الله) فيه دليل على أنهم كانوا حين المقابلة مسلمين، وكذا في قولهم: كفار مضر، وفى قولهم: الله ورسوله أعلم.
قوله: إلا في الشهر الحرام وللأصيلى وكريمة إلا في شهر الحرام، وهى رواية مسلم وهى من إضافة الشئ إلى نفسه كمسجد الجامع، ونساء المؤمنات، والمُراد بالشهر الحرام الجنس فيشمل الأربعة الحُرم، ويؤيده رواية قرة عند المؤلف في (المغازي) بلفظ إلا في أشهر الحرم، ورواية حماد بن زيد عنده في (المناقب) بلفظ إلا في كل شهر حرام، وقيل: اللام للعهد، والمُراد شهر رجب.
وفى رواية للبيهقي التصريح به، وكانت مضر تبالغ في تعظيم شهر رجب، فلهذا أضيف إليهم في حديث أبي بكرة حيث قال: رجب مضر كما سيأتي، والظاهر أنهم كانوا يخصونه بمزيد التعظيم مع تحريمهم القتال في الأشهر الثلاثة الأخرى إلا أنهم ربما أنسوها بخلافه، وفيه دليل على تقدم اسلام عبد القيس على قبائل مضر الذين كانوا بينهم وبين المدينة، وكانت مساكن عبد القيس بالبحرين وما والاها من أطراف العراق، ولهذا قالوا كما في رواية شعبة عند المؤلف في العلم: وانا نأتيك من شقّة بعيدة.
قال ابن قتيبة: الشقّة: السفر، وقال الزجاج: هي الغاية التي تقصد، ويدل على سبقهم إلى الاسلام
أيضا ما رواه المصنّف في الجمعة من طريق أبى جمرة أيضا عن ابن عباس، قال: إنّ أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مسجد عبد القيس بجواثي من البحرين- وجواثي بضم الجيم وبعد الألف مثلثة مفتوحة- وهى قرية شهيرة لهم، وإنما جمعوا بعد رجوع وفدهم إليهم، فدل على أنهم سبقوا جميع القرى إلى الاسلام.
قوله ( بأمر فصل): بالتنوين فيهما لا بالإضافة، والأمر واحد الأوامر، أي: مرنا بعمل بواسطة افعلوا، ولهذا قال الراوي: أمرهم.
وفى رواية حماد بن زيد وغيره عند المؤلف، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: آمركم، وله عن أبي التياح بصيغة افعلوا، والفصل بمعنى الفاصل كالعدل بمعنى العادل، أي: يفصل بين الحق والباطل، أو بمعنى المُفصّل أي: المُبيّن المكشوف حكاه الطيبى.
وقال الخطابي: الفصل البيّن، وقيل: المحكم.
قوله: نخبر به: بالرفع على الصفة لأمر، وكذا قوله: وندخل، ويروى بالجزم فيهما على أنه جواب الأمر، وسقطت الواو من وندخل في بعض الروايات، فيرفع نخبر ويجزم ندخل.
قال: ابن أبي جمرة: فيه دليل على ابداء العذر عند العجز عن توفية الحق واجبا أو مندوبا، وعلى أنه يبدأ بالسؤال عن الأهم، وعلى أن الأعمال الصالحة تُدخل الجنة إذا قُبلت، وقبولها يقع برحمة الله كما تقدم.
قوله: فأمرهم بأربع أي خصال أو جمل لقولهم حدّثنا بجمل من الأمر وهى رواية قرة عند المؤلف في (المغازي) قال القرطبي: قيل: إنّ أول الأربع المأمور بها أقام الصلاة، وإنما ذكر الشهادتين تبركا بهما كما قيل في قوله تعالى: واعلموا انما غنمتم من شئ فأن لله خمسه، والى هذا نحا الطيبى فقال: عادة البلغاء: ان الكلام إذا كان منصوبا لغرض جعلوا سياقه له وطرحوا ما عداه، وهنا لم يكن الغرض في الإيراد ذكر الشهادتين، لأن القوم كانوا مؤمنين مقرين بكلمتي الشهادة ولكن ربما كانوا يظنون أنّ الايمان مقصور عليهما كما كان الامر في صدر الاسلام، قال: فلهذا لم يعد الشهادتين في الأوامر.
قيل: ولا يرد على هذا الاتيان بحرف العطف فيحتاج إلى تقدير، وقال القاضي أبو بكر بن العربي: لولا وجود حرف العطف لقلنا إن ذكر الشهادتين ورد على سبيل التصدير لكن يمكن أن يقرأ قوله: وأقام الصلاة بالخفض فيكون عطفا على قوله: أمرهم بالايمان، والتقدير أمرهم بالايمان مصدرا به وبشرطه من الشهادتين، وأمرهم باقام الصلاة إلى آخره.
قوله(ونهاهم عن أربع عن الحنتم) إلى آخره في جواب قوله: وسألوه عن الأشربة هو من اطلاق المحل وإرادة الحال، أي: ما في الحنتم ونحوه، وصرّح بالمُراد في رواية النسائي
من طريق قرة، فقال وأنهاكم عن أربع: ما ينتبذ في الحنتم.. الحديث، والحنتم- بفتح المهملة وسكون النون وفتح المثناة من فوق- هي الجرّة كذا فسّرها ابن عمر في صحيح مسلم، وله عن أبي هريرة الحنتم: الجرار الخضر، وروى الحربي في (الغريب) عن عطاء: أنها جرار كانت تعمل من طين وشعر ودم والدباء- بضم المهملة وتشديد الموحدة والمد- هو القرع، قال النووي: والمُراد اليابس منه.
وحكى القزاز فيه القصر، والنقير- بفتح النون وكسر القاف- أصل النخلة ينقر فيتخذ منه وعاء.
والمزفت- بالزاي والفاء- ما طلى بالزفت، والمقير- بالقاف والياء الأخيرة- ما طلى بالقار، ويقال له: القير، وهو نبت يُحرق إذا يبس تطلى به السفن وغيرها كما تطلى بالزفت، قاله صاحب المحكم.
وفى مسند أبى داود الطيالسي، عن أبي بكزة، قال: أما الدباء فإنّ أهل الطائف كانوا يأخذون القرع فيخرطون فيه العنب ثم يدفنونه حتى يهدر ثم يموت، وأما النقير: فإن أهل اليمامة كانوا
ينقرون أصل النخلة ثم ينبذون الرطب والبسر ثم يدعونه حتى يهدر ثم يموت.
وأمّا الحنتم: فجرار كانت تحمل إلينا فيها الخمر.
وأمّا المزفت فهذه الأوعية التي فيها الزفت انتهى.
ومعنى النهى عن الانتباذ في هذه الأوعية بخصوصها لأنه يسرع فيها الاسكار، فربما شرب منها من لا يشعر بذلك ثم ثبتت الرخصة في الانتباذ في كل وعاء مع النهى عن شرب كل مسكر كما سيأتي في كتاب الأشربة إن شاء الله تعالى.
قوله: (وأخبروا بهن من وراءكم) بفتح من وهى موصولة، ووراءكم يشمل من جاؤوا من
عندهم، وهذا باعتبار المكان، ويشمل من يحدث لهم من الأولاد وغيرهم، وهذا باعتبار الزمان، فيحتمل أعمالها في المعنيين معا حقيقة ومجازا، واستنبط منه المصنف الاعتماد على أخبار الآحاد على ما سيأتي في بابه إن شاء الله تعالى(3) .
________________________________________
(1) عمدة القاري للعيني: 18/20.
(2) شرح صحيح مسلم للنووي: 181-191.
(3) فتح الباري لابن حجر: 1/120-126.
الحديث
حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قال حدَّثنا عَبَّادٌ هُوَ ابنُ عَبَّادٍ عنْ أبي جَمْرَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ قال قدِمَ وَفْدُ عبْدٍ القَيْسِ علَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا إنَّا مِنْ هاذَا الحَيِّ مِنْ رَبِيعَةَ وَلَسْنَانَصلُ إلَيْكَ إلاَّ فِي الشهْرِ الحَرَامِ فَمُرْنَا بِشَيءٍ نَأخُذْهُ عَنْكَ وَنَدْعُوا إلَيْهِ مَنْ وَرَاءَنَا فقالَ آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ وأنْهَاكُمْ عَنْ أرْبَعٍ الإيمَانُ بالله ثُمَّ فَسَّرَهَا لَهُمْ شَهَادَةُ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ الله وأنِّي رسُولُ الله وإقامُ
الصَّلاَةِ وإيتَاءُ الزَّكاةِ وأَنْ تُؤَدُّوا إلَيَّ خُمُسَ ما غَنِمْتُمْ وَأَنْهَى عنِ الدُّبَّاءِ والحنتم وَالمُقَيَّرِ والنَّقِيرِ.
الشرح
قوله: (إن وفد عبد القيس)، الوفد: قوم يجتمعون فيردون البلاد، وقال القاضي: هم القوم يأتون الملك ركبا، وهو اسم الجمع، وعبد القيس: أبو قبيلة، وهو ابن أفصى، بالفاء: ابن دعمى، بالضم: ابن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نذار.
قوله: (إنا هذا الحي) بالنصب على الاختصاص.
قوله: من الربيعة خبرلان وربيعة هو ابن نزار بن معد بن عدنان، وإنّما قالوا ربيعة لان عبد القيس من أولاده.
قوله: (إلاَّ في الشهر الحرام)، المُراد به الجنس، فيتناول الأشهر الحرم الأربعة:رجب، وذا القعدة، وذا الحجة والمحرم.
قوله: (تأخذه)، بالرفع على أنه استئناف، وليس جوابا للأمر بقرينة عطف ندعو عليه مرفوعا. قوله: (من وراءنا) في محل النصب على أنه مفعول: ندعو.
قوله: (ثم فسرها)، إنما أنت الضمير نظرا إلى أن المراد من الإيمان الشهادة وإلى أنه خصلة، إذا التقدير: آمركم بأربع خصال.
فإن قلت: لِمَ لَمْ يذكر الصوم ههنا؟ مع أنه ذكر في باب أداء الخمس من الإيمان حيث قال: (وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان ) والحال أن الصوم كان واجبا حينئذٍ لأن وفادتهم كانت عام الفتح ، وإيجاب الصوم في السنة الثانية من الهجرة.
قلت: قال ابن الصلاح: وأما عدم ذكر الصوم فيه فهو إغفال من الراوي وليس من الاختلاف الصادر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
قوله: (الدباء)، بضم الدال وتشديد الباء الموحدة وبالمد، وقد تقصر وقد تكسر الدال: وهو اليقطين اليابس، وهو جمع، والواحدة: دباءة، ومن قصر قال: دباة و: (الحنتم)، بفتح الحاء المهملة وسكون النون وفتح التاء المثناة من فوق، وهي الجرار الخضر تضرب إلى الحمرة و: (النقير)، بفتح النون وكسر القاف، وهو جذع ينقر وسطه وينبذ فيه و:(المقير)، بضم الميم وفتح القاف وتشديد الياء آخر الحروف: وهو المطلى بالقار، وهو الزفت وفي باب أداء الخمس من الإيمان: الحنتم والدباء والنقير والمزفت، وربما قال:المقير.
فإن قلت: ما مناسبة نهيه، صلى الله عليه وآله وسلم، عن الظروف المذكورة وأمره بأداء الخمس بمقارنة أمره بالإيمان وما ذكره معه قلت:كان هؤلاء الوفد يكثرون الانتباذ في الظروف المذكورة فعرفهم ما يهمهم، ويخشى منهم مواقعته، وكذلك كان يخشى منهم الغلول في الفيء فلذلك نص عليه(1) .
الحديث
حدّثني إسْحَاقُ أخبرَنا أبُو عامِرٍ العَقَدِيُّ حدثنا قُرَّةُ عنْ أبي جَمْرَةَ قُلْتُ لابْنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما: إنَّ لِي جرَّةً يُنْتَبَذُ لي فِيها نَبِيذٌ فأشْرَبُهُ حُلْواً في جَرٍّ إن أكْثَرْتُ مِنْهُ، فَجالَسْتُ القَوْمَ فأطلْتُ الجُلُوسَ خَشِيتُ أنْ أفْتَضِحَ، فقال:قَدِمَ وفْدُ عبْدِ القَيْسِ علَى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: مَرْحباً بالْقَوْمِ غيرَ خَزَايا ولا النَّدَامَى.
فقالُوا: يا رسُولَ الله إنَّ بَيْنَنَا وبَيْنَكَ المُشْرِكِينَ مِنْ مُضَرَ وإنّا لا نَصِلُ إليْكَ إلا في أشْهُرِ الحُرُمِ حَدِّثْنا بِجُمَلٍ مِنَ الأمْرِ إنْ عَمِلْنا بهِ دَخَلْنا الجَنَّةَ ونَدْعُو بهِ مَنْ وَرَاءَنا قال آمُرُكُمْ بأرْبَعٍ وأنْهاكُمْ عنْ أرْبَعٍ الإيمانُ بالله هَلْ تَدْرُونَ ما الإيمانُ الله شَهادَةُ أنْ لا إلاهَ إلاَّ الله وإقامُ الصَّلاَةِ وإيتاءُ الزَّكاةِ وصَوْمُ رَمضان وأنْ تُعْطُوا مِنَ المَغانِمِ الخُمسَ وأنْهاكُمْ عنْ أرْبَعٍ ما انْتُبِذَ في الدُّباءِ والنِّقيرِ والحَنْتَمِ والمُزَفَّتِ..
شرح الحديث
قوله: (إن لي جرة)، ويروى: إن لي جارية، فإن صحت هذه الرواية، فقوله:تنتبذ، بتاء المضارعة للمؤنث، وعلى الرواية المشهورة تكون: ننتبذ، بنون المتكلّم.
قوله: (في جر) يتعلق بمحذوف هو صفة جرة المذكورة تقديره: إنّ لي جرّة كانت في جملة جرار، وقال الجوهري: الجرّة من الخزف والجمع جرر وجرار .
قوله: (خشيت) جواب: إن، معناه: إن أكثرت من نبيذ الجر فجالست الناس وطال جلوسي خشيت أن افتضح، لما أكاد تشتبه أفعالي وأقوالي بالسكارى، ومعنى البقية قد مر في الباب المذكور(2) .
الحديث
حدّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ حدّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عنْ أبي جَمْرَةَ، قال: سَمِعْتُ ابنَ عَبَّاسٍ يقُولُ: قَدِمَ وَفْدُ عبْدِ القَيْسِ عَلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقَالُوا: يا رسولَ الله إنَّا هَذا الحَيَّ مِنْ رَبِيعَةَ وقَدْ حالَتْ بَيْنَنَا وبيْنَكَ كُفّارُ مُضَرَ فَلَسْنا نَخْلُصُ إليْكَ إلاَّ في شَهْرٍ حَرَامٍ فمُرْنا بأشيْاءَ نأخُذُ بهَا ونَدْعُوا إلَيْهَا مَنْ وَرَاءَنا قال آمُرُكُمْ بأرْبَعٍ وَأنْهَاكُمْ عنْ أرْبَعٍ الإيمَانِ بالله شَهَادَةِ أنْ لا إلاهَ إلاَّ الله وعَقَدَ وَاحِدَةً وإقامِ الصَّلاَةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ وأنْ تُؤْدُّوا لله خُمُسَ ما غَنِمْتُمْ وأنْهاكُمْ عنِ الدُبَّاءِ والنَّقِيرِ والخنْتَمِ والمُزَفَّتِ..
شرح الحديث
هذا طريق آخر في حديث ابن عباس.
قوله: (من ربيعة)، هو ابن نزار بن معد بن عدنان، قال الرشاطي: ربيعة هذا شعب واسع فإنه قبائل وعمائر وبطون وأفخاذ.
قوله: (إنا هذا الحي)، أراد به عبد القيس، وأسقط في هذا: صوم رمضان، لأن الظاهر أن القصة وقعت مرتين، ففي المرة الأولى ذكر ما الأمر فيه أهم بالنسبة إليهم أو نسيه الراوي(3) .
الحديث
حدّثنا عبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ الجُعْفِيُّ حدّثنا أبُو عامِرٍ عبْدُ المَلِكِ حدّثنا إبْرَاهِيمُ هُوَ ابنُ طهْمانَ عنْ أبي جَمْرَةَ عنِ ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما، قال: أوَّلُ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ بَعْدَ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ في مَسْجِدِ رسُولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم في مَسْجِد عبْدِ القَيْسِ بِجُوَاثَي يَعْني قَرْيَةً مِنَ البَحْرَيْ.
تعليق
ذكر هذا هنا لأجل ذكر عبد القيس فيه، وفيه فضيلة لعبد القيس أيضا، وأبو جمرة بالجيم مر عن قريب، وجواثي، بضم الجيم وتخفيف الواو وفتح الثاء المثلثة مقصوراً:حصن قريب من البصرة، والبحرين موضع بساحل بحر عمان(4) .
شرح صحيح مسلم للنووي
قوله: (قدم وفد عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) .
قال صاحب التحرير: الوفد الجماعة المختارة من القوم ليتقدموهم في لقى العظماء والمصير إليهم في المهمات واحدهم وافد، قال: وفد عبد القيس هؤلاء تقدموا قبائل عبد القيس للمهاجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكانوا أربعة عشر راكبا الأشج العصري رئيسهم، ومزيدة بن مالك المحاربي، وعبيدة بن همام المحاربي، وصحار بن العباس المري، عمرو بن مرحوم العصري، والحارث بن شعيب العصري، والحارث بن جندب من بنى عايش، ولم نعثر بعد طول التتبع على أكثر من أسماء هؤلاء.
قال: وكان سبب وفودهم: أنّ منقذ ابن حيان أحد بنى غنم بن وديعة كان متجره إلى يثرب في الجاهلية، فشخص إلى يثرب بملاحف وتمر من هجر بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، فبينا منقذ بن حيان قاعد إذ مر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنهض منقذ إليه، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أمنقذ بن حيان كيف جميع هيئتك وقومك؟
ثم سأله عن أشرافهم رجل رجل يسميهم بأسمائهم، فأسلم منقذ وتعلم سورة الفاتحة واقرأ باسم ربك، ثم رحل قبل هجر، فكتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم معه إلى جماعة عبد القيس كتابا فذهب به وكتمه أياما، ثم اطلعت عليه امرأته وهي بنت المنذر بن عائذ- بالذال المعجمة- ابن الحارث والمنذر هو الأشج سمّاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم به لأثر كان في وجهه وكان منقذ رضي الله عنه-يصلى ويقرأ فنكرت امرأته ذلك، فذكرته لأبيها المنذر، فقالت: أنكرت بعلى منذ قدم من يثرب أنه يغسل أطرافه ويستقبل الجهة تعنى القبلة فيحنى ظهره مرة ويضع جبنه مرة ذلك ديدنه منذ قدم فتلاقيا فتجاريا ذلك فوقع الاسلام في قلبه، ثم ثار الأشج إلى قومه عصر ومحارب بكتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقرأه عليهم، فوقع الاسلام في قلوبهم وأجمعوا على السير إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فسار الوافد، فلما دنوا من المدينة، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لجلسائه: أتاكم وفد عبد القيس خير أهل المشرق- وفيهم الأشج العصري- غير ناكثين ولا مبدلين، ولا مرتابين، إذ لم يسلم قوم حتى وتروا.
قال: وقولهم: (انا هذا الحي من ربيعة) لأنه عبد القيس ابن أفصى يعنى- بفتح الهمزة وبالفاء والصاد المهملة المفتوحة- ابن دعمي بن جديلة بن أسد ابن ربيعة بن نزار.
وكانوا ينزلون البحرين- الخط وأعنابها وسرة القطيف والسفار والظهران إلى لرمل إلى الاجرع ما بين هجر إلى قصر وبينونة ثم الجوف والعيون والأحساء إلى حد أطراف
الدهنا وسائر بلادها ما ذكره صاحب التحرير-.
قولهم: إنّا هذا الحي، فالحي منصوب على التخصيص، قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح:الذي نختاره نصب الحي على التخصيص، ويكون الخبر في قولهم: من ربيعة، ومعناه: انا هذا الحي حي من ربيعة، وقد جاء بعد هذا في الرواية الأخرى: انا حي بن ربيعة.
وأما معنى الحي، فقال صاحب المطالع: الحي اسم لمنزل القبيلة، ثم سُمّيت القبيلة به لأن بعضهم يحيا ببعض.
قولهم: (وقد حالت بيننا وبينك كفار مضر) سببه أن كفار مضر كانوا بينهم وبين المدينة، فلا يمكنهم الوصول إلى المدينة الا عليهم.
قولهم: (ولا نخلص إليك الا في شهر الحرام) معنى نخلص نصل، ومعنى كلامهم: انا لا نقدر على الوصول إليك خوفا من أعدائنا الكفار الا في الشهر الحرام، فإنهم لا يتعرضون لنا كما كانت عادة العرب من تعظيم الأشهر الحرم وامتناعهم من القتال فيها.
وقولهم: شهر الحرام:كذا هو في الأصول كلها، بإضافة شهر إلى الحرام، وفى الرواية الأخرى: أشهر الحرم، والقول فيه كالقول في نظائره من قولهم: مسجد الجامع، وصلاة الأولى، ومنه قول الله تعالى: الغربي.
قوله: الآخرة: فعلى مذهب النحويين الكوفيين هو من إضافة الموصوف إلى صفته، وهو جائز عندهم.
وعلى مذهب البصريين: لا تجوز هذه الإضافة ولكن هذا كله عندهم على حذف في الكلام للعلم به، فتقديره: شهر الوقت الحرام، وأشهر الأوقات الحرم، ومسجد المكان الجامع، ودار الحياة الآخرة، وجانب المكان الغربي ونحو ذلك والله أعلم.
ثم إنّ قولهم: شهر الحرام، المراد به جنس الأشهر الحرم وهي أربعة أشهر حرم كما نص عليه القرآن العزيز، وتدل عليه الرواية الأخرى بعد هذه، الا في اشهر الحرم والأشهر الحرم هي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب، هذه الأربعة هي الأشهر الحرم باجماع العلماء من أصحاب الفنون، ولكن اختلفوا في الأدب المستحسن في كيفية عدّها على قولين حكاهما الإمام أبو جعفر النحاس في كتابه (صناعة الكتاب) ، قال: ذهب الكوفيون إلى أنه يقال: المحرّم، ورجب، وذو القعدة، وذو الحجة.
قال: والكتاب يميلون إلى هذا القول ليأتوا بهن من سنة واحدة.
قال: وأهل المدينة يقولون: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب، وقوم ينكرون هذا ويقولون: جاءوا بهن من سنتين.
قال أبو جعفر: وهذا غلط بين وجهل باللغة لأنه قد علم المُراد، وأن المقصود ذكرها، وأنها في كل سنة فكيف يتوهّم أنها من سنتين.
قال: والأولى والاختيار ما قاله أهل المدينة، لأن الأخبار قد تظاهرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قالوا من رواية ابن عمر، وأبي هريرة، وأبى بكرة رضي الله عنهم.
قال: وهذا أيضا قول أكثر أهل التأويل، قال النحاس: وأُدخلت الألف والام في المحرّم دون غيره من الشهور.
قال: وجاء من الشهور ثلاثة مضافات:شهر رمضان، وشهرا ربيع، يعنى والباقي غير مضافات، وسُمّى الشهر شهراً لشهرته وظهوره والله أعلم.
وكانت وفادة عبد القيس عام الفتح قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة، ونزلت فريضة الحج سنة تسع بعدها على الأشهر والله أعلم.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: وأنها كم عن الدباء، والحنتم، والنقير، والمقير، وفى رواية:المزفت بدل المقير، فنضبطه ثم نتكلم على معناه إن شاء الله تعالى.
فالدباء: بضم الدال وبالمد: وهو القرع اليابس أي الوعاء منه.
وأما الحنتم: فبحاء مهملة مفتوحة، ثم نون ساكنة، ثم تاء مثنّاة من فوق مفتوحة، ثم ميم، الواحدة حنتمة.
وأما النقير: فبالنون المفتوحة والقاف.
وأما المقير: فبفتح القاف والياء.
فأما الدباء: فقد ذكرناه.
وأما الحنتم: فاختلف فيها، فأصح الأقوال وأقواها: أنها جرار خضر، وهذا التفسير ثابت في كتاب الأشربة من صحيح مسلم عن أبي هريرة
وهو قول عبد الله بن مغفل الصحابي رضي الله عنه وبه قال الأكثرون أو كثيرون من أهل
اللغة وغريب الحديث والمحدثين والفقهاء.
والثاني: أنها الجرار كلها، قاله عبد الله بن عمر وسعيد بن جبير، وأبو سلمة.
والثالث: أنها جرار يؤتى بها من مصر مقيرات الأجواف، وروى ذلك عن أنس بن مالك رضي الله عنه، ونحوه عن ابن أبي ليلى وزاد أنها حمر.
والرابع:عن عائشة رضي الله عنها: جرار حمر أعناقها في جنوبها يجلب فيها الخمر من مصر. والخامس: عن ابن أبي ليلى أيضا: أفواهها في جنوبها يجلب فيها الخمر من الطائف، وكان ناس ينتبذون فيها يضاهون به الخمر.
والسادس: عن عطاء: جرار كانت تعمل من طين وشعر ودم.
وأما النقير: فقد جاء في تفسيره في الرواية الأخيرة أنه جذع ينقر وسطه.
وأما المقير فهو المزفت وهو المطلى بالقار وهو الزفت، وقيل: الزفت نوع من القار، والصحيح الأول، فقد صح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: المزفت هو المقير.
وأما معنى النهى عن هذه الأربع فهو:أنه نهى عن الانتباذ فيها وهو أن يجعل في الماء حبات من تمر أو زبيب أو نحوهما ليحلو ويشرب، وإنما خصت هذه بالنهي لأنه يسرع إليه الاسكار فيها فيصير حرما نجسا وتبطل ماليته، فنهى عنه لما فيه من اتلاف المال، ولأنه ربما شربه بعد اسكاره من لم يطلع عليه ولم ينه عن الانتباذ في أسقية الادم، بل أذن فيها لأنها لرقتها لا يخفى فيها المسكر بل إذا صار مسكرا شقها غالبا.
ثم إن هذا النهى كان في أول الأمر ثم نسخ بحديث بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:كنت نهيتكم عن الانتباذ الا في الأسقية فانتبذوا في كل وعاء ولا تشربوا مسكرا. رواه مسلم في الصحيح، هذا الذي ذكرناه من كونه منسوخا هو مذهبنا، ومذهب جماهير العلماء، قال الخطابي: القول بالنسخ هو أصح الأقاويل.
قال: وقال قوم: التحريم باق وكرهوا الانتباذ في هذه الأوعية، ذهب إليه مالك، وأحمد، وإسحاق، وهو مروى عن ابن عمر وعباس رضي الله عنهم والله أعلم.
قوله: (فأتته امرأة تسأله عن نبيذ الجر): أما الجر فبفتح الجيم: وهو اسم جمع الواحدة جرّة، ويجمع أيضا على جرار، وهو هذا الفخار المعروف، وفى هذا دليل على جواز استفتاء المرأة الرجال الأجانب وسماعها صوتهم وسماعهم صوتها للحاجة.
وفي قوله: إنّ وفد عبد القيس الخ دليل على أنّ مذهب ابن عباس رضي الله عنه أنّ النهى عن الانتباذ في هذه الأوعية ليس بمنسوخ بل حكمه باق، وقد قدمنا بيان الخلاف فيه قوله صلى الله عليه وسلم ( مرحبا بالقوم ): منصوب على المصدر استعمله العرب وأكثرت منه تريد به البر وحسن اللقاء، ومعناه: صادفت رحبا وسعة.
قوله صلى الله عليه وآله وسلم (غير خزايا ولا ندامى ) هكذا هو في الأصول الندامى بالألف والام وخزايا بحذفهما وروى في غير هذا الموضع بالألف واللام فيهما وروى باسقاطهما فيهما والرواية فيه غير بنصب الراء على الحال وأشار صاحب التحرير إلى أنه يروى أيضا بكسر الراء على الصفة للقوم والمعروف الأول ويدل عليه ما جاء في رواية البخاري مرحبا بالقوم الذين جاؤوا غير خزايا ولا ندامى والله أعلم أما خزايا فجمع خزيان كحيران وحيارى وسكران وسكارى والخزيان المستحى وقيل الذليل المهان وأما الندامى فقيل: أنه جمع ندمان بمعنى نادم وهي لغة في نادم حكاها القزاز صاحب جامع اللغة والجوهري في صحاحه وعلى هذا هو على بابه وقيل هو جمع نادم اتباعا للخزايا وكان أصل نادمين فأتبع لخزايا.
تحسينا للكلام وهذا الاتباع كثير في كلام العرب وهو من فصيحه ومنه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ارجعن مأزورات غير مأجورات أتبع مأزورات لمأجورات ولو أفراد ولم يضم إليه مأجورات لقال موزورات كذا قاله الفراء وجماعات قالوا ومنه قول العرب انى لآتيه بالغدايا والعشايا جمعوا الغداة على غدايا اتباعا لعشايا ولو أفردت لم يجز الا غدوات وأما معناه فالمقصود أنه لم يكن منكم تأخر عن الاسلام ولا عناد ولا أصابكم اسار ولا سباء ولا ما أشبه ذلك مما تستحيون بسببه أو تذلون أو تهانون أو تندمون والله أعلم.
قوله: (فقالوا يا رسول الله انا نأتيك من شقة بعيدة) الشقّة بضم الشين وكسرها لغتان مشهورتان أشهرهما وأفصحهما الضم، وهي التي جاء بها القرآن العزيز قال الإمام أبوإسحاق الثعلبي: وقرأ عبيد بن عمير بكسر الشين وهي لغة قيس، والشقة السفر البعيد كذا قاله ابن السكّيت وابن قتيبة وقطرب وغيرهم، قيل سُمّيت شقة لأنها تشقّ على الانسان، وقيل: هي المسافة، وقيل: الغاية التي يخرج الإنسان إليها، فعلى القول الأول يكون قولهم بعيدة مبالغة في بعدها والله أعلم.
قولهم: ( فمرنا بأمر فصل) هو بتنوين أمر، قال الخطابي وغيره:هو البين الواضح الذي ينفصل به
المراد، ولا يشكل قوله صلى الله عليه وسلم: ( وأخبروا به من ورائكم وقال أبو بكر في روايته من وراءكم ) هكذا ضبطناه، وكذا هو في الأصول الأول، بكسر الميم، والثاني بفتحها وهما يرجعان إلى معنى واحد.
قوله: ( وحدثنا نصر بن علي الجهضمي) هو بفتح الجيم والضاد المعجمة واسكان الهاء بينهما
وقد تقدّم بيانه في شرح المقدمة.
قوله: (قالا جميعا) فلفظة جميعا منصوبة على الحال، ومعناه اتفقا واجتمعا على الحديث بما يذكره، اما مجتمعين في وقت واحد، واما في وقتين، ومن اعتقد أنه لابد أن يكون ذلك في وقت واحد فقد غلط غلطا بينا.
قوله: (وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأشج أشج عبد القيس:إنّ فيك لخصلتين يحبهما الله الحلم والأناة): وأما الأشج فاسمه المنذر بن عائذ بالذال المعجمة العصري بفتح العين والصاد المهملتين هذا هو الصحيح المشهور الذي قاله ابن عبد البر والأكثرون أو الكثيرون. وقال ابن الكلبي: اسمه المنذر بن الحارث بن زياد بن عصر بن عوف، وقيل: اسمه المنذر بن عامر، وقيل: المنذر بن عبيد، وقيل:اسمه عائذ بن المنذر، وقيل: عبد الله بن عوف.
وأما الحلم فهو العقل، وأما الأناة فهي التثبّت وترك العجلة وهي مقصورة، وسبب قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ذلك له ما جاء في حديث الوفد أنهم لما وصلوا المدينة بادروا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأقام الأشج عند رحالهم فجمعها وعقل ناقته ولبس أحسن ثيابه، ثم أقبل إلى النبي صلى الله عليوآله ه وسلم فقرّ به النبي صلى الله عليه وسلم وأجلسه إلى جانبه، ثم قال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم:تبايعون على أنفسكم وقومكم، فقال القوم:نعم.
فقال الأشج: يا رسول الله، إنّك لم تزاول الرجل عن شيء أشد عليه من دينه نبايعك على أنفسنا ونرسل من يدعوهم فمن اتبعنا كان منّا ومن أبى قاتلناه.
قال:صدقت إنّ فيك خصلتين الحديث.
قال القاضي عياض:فالأناة تربصه حتى نظر في مصالحه، ولم يعجل، والحلم هذا القول الذي قاله الدال على صحّة عقله وجودة نظره للعواقب.
قلت: ولا يخالف هذا ما جاء في مسند أبى يعلى وغيره أنه لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأشج: إنّ فيك خصلتين الحديث، قال:يا رسول الله كانا في أم حدثا؟
قال: بل قديم، قال: قلت: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبّهما.
قوله: (حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، قال:حدّثنا من لقى الوفد الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من عبد القيس، قال سعيد، وذكر قتادة أبا نضرة عن أبي سعيد الخدري) معنى هذا الكلام أنّ قتادة حدّث بهذا الحديث عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري كما جاء مبينا في الرواية التي بعد هذا من رواية ابن أبي عدى.
وأما أبو عروبة بفتح العين فاسمه مهران وهكذا يقوله أهل الحديث وغيرهم عروبة بغير ألف ولام، وقال ابن قتيبة في كتابه (أدب الكاتب) في باب ما تغيّر من أسماء الناس هو ابن أبي العروبة بالألف واللام يعنى أنّ قولهم عروبة لحن.
وذكره ابن قتيبة في كتاب (المعارف) كما ذكره غيره(5) .
فتح الباري لابن حجر
قوله: ثم قال: إنّ وفد عبد القيس بيّن مسلم من طريق غندر عن شعبة السبب في تحديث ابن عباس لأبي جمرة بهذا الحديث، فقال بعد قوله وبين الناس: فأتته امرأة تسأله عن نبيذ الجر فنهى عنه، فقلت:يا ابن عباس إنّى أنتبذ في جرة خضراء نبيذا حلوا فاشرب منه فتقرقر بطني، قال: لا تشرب منه وإن كان أحلى من العسل.
وللمصنف في أواخر المغازي من طريق قرة عن أبي جمرة، قال: قلت لابن عباس: إن لي جرة أنتبذ فيها فأشربه حلوا ان أكثرت منه، فجالست القوم فأطلت الجلوس خشيت أن أفتضح، فقال: قدم وفد عبد القيس، فلما كان أبو جمرة من عبد القيس، وكان حديثهم يشتمل على النهى عن الانتباذ في الجرار ناسب أن يذكره له، وفى هذا دليل على أنّ ابن عباس لم يبلغه نسخ تحريم الانتباذ في الجرار وهو ثابت من حديث بريدة ابن الحصيب عند مسلم وغيره.
قال القرطبي: فيه دليل على أن للمفتى ان يذكر الدليل مستغنيا به عن التنصيص على جواب الفتيا إذا كان السائل بصيرا بموضع الحجة.
قوله: لما أتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من القوم أو من الوفد الشك من أحد الرواة، إمّا أبو جمرة أو من دونه وأظنّه شعبة فإنه في رواية قرة وغيره بغير شك وأغرب الكرماني، فقال: الشك من ابن عباس.
قال النووي: الوفد الجماعة المختارة للتقدم في لقى العظماء واحدهم وافد، قال:ووفد عبد القيس المذكورون كانوا أربعة عشر راكبا، كبيرهم الأشج ذكره صاحب التحرير في شرح مسلم وسمى منهم المنذر ابن عائذ وهو الأشج المذكور، ومنقذ بن حبان، ومزيدة بن مالك، وعمرو بن مرحوم، والحارث بن شعيب، وعبيدة بن همام، والحارث بن جندب، وصحار ابن العباس وهو بصاد مضمومة وحاء مهملتين.
قال: ولم نعثر بعد طول التتبع على أسماء الباقين.
قلت: قد ذكر ابن سعد منهم عقبة بن جروة، وفى سنن أبي داود: قيس بن النعمان العبدي، وذكره الخطيب أيضا في المبهمات وفى مسند البزار، وتاريخ ابن أبي خيثمة الجهم بن قثم، ووقع ذكره في صحيح مسلم أيضا لكن لم يسمّه، وفى مسندي أحمد وابن أبي شيبة الرستم العبدي، وفى (المعرفة) لأبي نعيم جويرية العبدي، وفى (الأدب) للبخاري الزارع بن عامر العبدي، فهؤلاء الستّة الباقون من العدد وما ذكر من أنّ الوفد كانوا أربعة عشر راكبا لم يذكر دليله.
وفى (المعرفة) لابن منده من طريق هود العصري وهو بعين وصاد مهملتين مفتوحتين نسبة إلى عصر بطن من عبد القيس عن جده لأمّه مزيدة، قال:بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُحدّث أصحابه إذ قال لهم: سيطلع لكم من هذا الوجه ركب هم خير أهل المشرق، فقام عمر فلقى ثلاثة عشر راكبا، فرحّب وقرب، وقال: من القوم؟
قالوا: وفد عبد القيس، فيمكن أن يكون أحد المذكورين كان غير راكب أو مرتدفا، وأما ما رواه الدولابي وغيره من طريق أبى خيرة- بفتح الخاء المعجمة وسكون المثناة التحتانية وبعد الراء هاء- الصباحي وهو- بضم الصاد المهملة بعدها موحدة خفيفة وبعد الألف حاء مهملة- نسبة إلى صباح بطن من عبد القيس.
قال: كنت في الوفد الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من وفد عبد القيس، وكنا أربعين رجلا، فنهانا عن الدباء، والنقير الحديث.. فيمكن أن يجمع بينه وبين الرواية الأخرى: بأنّ الثلاثة عشر كانوا رؤس الوفد، ولهذا كانوا ركبانا، وكان الباقون اتباعا، وقد وقع في جملة من الأخبار ذكر جماعة من عبد القيس زيادة على من سميته هنا منهم: أخو الزارع واسمه مطر، وابن أخته ولم يسم وروى ذلك البغوي في معجمه.
ومنهم: مشمرج السعدي، روى حديثه ابن السكن وأنه قدم مع وفد عبد القيس، ومنهم جابر بن الحارث، وخزيمة بن عبد ابن عمرو، وهمام بن ربيعة، وجارية- أوله جيم- ابن جابر، ذكرهم ابن شاهين في معجمه.
ومنهم: نوح بن مخلد جدّ أبى جمرة، وكذا أبو خيرة الصباحي كما تقدم، وإنما أطلت في هذا الفصل لقول صاحب التحرير أنه لم يظفر بعد طول التتبّع إلا بما ذكرهم.
قال ابن أبي جمرة في قوله: من القوم؟ دليل على استحباب سؤال القاصد عن نفسه ليُعرف فينزل منزلته.
قوله: قالوا ربيعة فيه التعبير عن البعض بالكل، لأنّهم بعض ربيعة، وهذا من بعض الرواة، فإن عند المصنّف في الصلاة من طريق عباد بن عباد عن أبي جمرة، فقالوا: إنّ هذا الحي من ربيعة.
قال ابن الصلاح: الحي منصوب على الاختصاص، والمعنى:أنّ هذا الحي حي من ربيعة، قال:والحي هو اسم لمنزل القبيلة، ثم سُمّيت القبيلة به لأنّ بعضهم يحيا ببعض.
قوله: (مرحبا) هو منصوب بفعل مضمر، أي:صادفت رحبا بضم الراء، أي: سعة والرحب بالفتح الشئ الواسع، وقد يزيدون معها أهلا، أي: وجدت أهلا فاستأنس.
وأفاد العسكري: أنّ أول من قال مرحبا سيف بن ذي يزن، وفيه دليل على استحباب تأنيس القادم، وقد تكرّر ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، ففي حديث أم هانئ: مرحبا بأم هانئ، وفى قصة عكرمة بن أبي جهل: مرحبا بالراكب المهاجر، وفى قصة فاطمة: مرحبا بابنتي، وكلها صحيحة.
وأخرج النسائي من حديث عاصم بن بشير الحارثي، عن أبيه: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال له لما دخل فسلم عليه:مرحبا وعليك السلام.
قوله: (غير خزايا) بنصب غير على الحال، وروى بالكسر على الصفة، والمعروف الأول قاله النووي، ويؤيده رواية المصنّف في الأدب من طريق أبى التياح عن أبي جمرة، مرحبا بالوفد الذين جاؤوا غير خزايا ولا ندامى، وخزايا جمع خزيان وهو الذي أصابه خزى، والمعنى: أنهم أسلموا طوعا من غير حرب أو سبى يخزيهم ويفضحهم.
قوله:(ولا ندامى) قال الخطابي:كان أصله نادمين جمع نادم لأنّ ندامى إنما هو جمع ندمان أي المنادم في اللهو، قال الشاعر:
فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقنى لكنه هنا خرج على الاتباع كما قالوا: العشايا والغدايا، وغداة جمعها الغدوات لكنّه اتبع انتهى.
وقد حكى القزاز والجوهري وغيرهما من أهل اللغة أنه يقال:نادم وندمان في الندامة بمعنى فعلى، هذا فهو على الأصل ولا اتباع فيه والله أعلم.
ووقع في رواية النسائي من طريق قرة، فقال:مرحبا بالوفد ليس الخزايا ولا النادمين، وهى للطبراني من طريق شعبة أيضا.
قال ابن أبي جمرة: بشّرهم بالخير عاجلاً وآجلاً، لأنّ الندامة إنّما تكون في العاقبة، فإذا انتفت ثبت ضدّها، وفيه دليل على جواز الثناء على الانسان في وجهه إذا أمن عليه الفتنة.
قوله: (فقالوا يا رسول الله) فيه دليل على أنهم كانوا حين المقابلة مسلمين، وكذا في قولهم: كفار مضر، وفى قولهم: الله ورسوله أعلم.
قوله:إلا في الشهر الحرام وللأصيلى وكريمة إلا في شهر الحرام، وهى رواية مسلم وهى من إضافة الشئ إلى نفسه كمسجد الجامع، ونساء المؤمنات، والمُراد بالشهر الحرام الجنس فيشمل الأربعة الحُرم، ويؤيده رواية قرة عند المؤلف في (المغازي) بلفظ إلا في أشهر الحرم، ورواية حماد بن زيد عنده في (المناقب) بلفظ إلا في كل شهر حرام، وقيل: اللام للعهد، والمُراد شهر رجب.
وفى رواية للبيهقي التصريح به، وكانت مضر تبالغ في تعظيم شهر رجب، فلهذا أضيف إليهم في حديث أبي بكرة حيث قال: رجب مضر كما سيأتي، والظاهر أنهم كانوا يخصونه بمزيد التعظيم مع تحريمهم القتال في الأشهر الثلاثة الأخرى إلا أنهم ربما أنسوها بخلافه، وفيه دليل على تقدم اسلام عبد القيس على قبائل مضر الذين كانوا بينهم وبين المدينة، وكانت مساكن عبد القيس بالبحرين وما والاها من أطراف العراق، ولهذا قالوا كما في رواية شعبة عند المؤلف في العلم: وانا نأتيك من شقّة بعيدة.
قال ابن قتيبة: الشقّة: السفر، وقال الزجاج: هي الغاية التي تقصد، ويدل على سبقهم إلى الإسلام.
أيضا ما رواه المصنّف في الجمعة من طريق أبى جمرة أيضا عن ابن عباس، قال: إنّ أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مسجد عبد القيس بجواثي من البحرين- وجواثي بضم الجيم وبعد الألف مثلثة مفتوحة- وهى قرية شهيرة لهم، وإنما جمعوا بعد رجوع وفدهم إليهم، فدل على أنهم سبقوا جميع القرى إلى الاسلام.
قوله (بأمر فصل) :بالتنوين فيهما لا بالإضافة، والأمر واحد الأوامر، أي: مرنا بعمل بواسطة افعلوا، ولهذا قال الراوي: أمرهم.
وفى رواية حماد بن زيد وغيره عند المؤلف، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: آمركم، وله عن أبي التياح بصيغة افعلوا، والفصل بمعنى الفاصل كالعدل بمعنى العادل، أي: يفصل بين الحق والباطل، أو بمعنى المُفصّل أي: المُبيّن المكشوف حكاه الطيبى.
وقال الخطابي: الفصل البيّن، وقيل: المحكم.
قوله:نخبر به :بالرفع على الصفة لأمر، وكذا قوله: وندخل، ويروى بالجزم فيهما على أنه جواب الأمر، وسقطت الواو من وندخل في بعض الروايات، فيرفع نخبر ويجزم ندخل.
قال: ابن أبي جمرة: فيه دليل على ابداء العذر عند العجز عن توفية الحق واجبا أو مندوبا، وعلى أنه يبدأ بالسؤال عن الأهم، وعلى أن الأعمال الصالحة تُدخل الجنة إذا قُبلت، وقبولها يقع برحمة الله كما تقدم.
قوله:فأمرهم بأربع أي خصال أو جمل لقولهم حدّثنا بجمل من الأمر وهى رواية قرة عند المؤلف في (المغازي) قال القرطبي: قيل: إنّ أول الأربع المأمور بها أقام الصلاة، وإنما ذكر الشهادتين تبركا بهما كما قيل في قوله تعالى: واعلموا انما غنمتم من شئ فأن لله خمسه، والى هذا نحا الطيبى فقال: عادة البلغاء: ان الكلام إذا كان منصوبا لغرض جعلوا سياقه له وطرحوا ما عداه، وهنا لم يكن الغرض في الإيراد ذكر الشهادتين، لأن القوم كانوا مؤمنين مقرين بكلمتي الشهادة ولكن ربما كانوا يظنون أنّ الايمان مقصور عليهما كما كان الامر في صدر الاسلام، قال: فلهذا لم يعد الشهادتين في الأوامر.
قيل: ولا يرد على هذا الاتيان بحرف العطف فيحتاج إلى تقدير، وقال القاضي أبو بكر بن العربي: لولا وجود حرف العطف لقلنا إن ذكر الشهادتين ورد على سبيل التصدير لكن يمكن أن يقرأ قوله: وأقام الصلاة بالخفض فيكون عطفا على قوله: أمرهم بالايمان، والتقدير أمرهم بالايمان مصدرا به وبشرطه من الشهادتين، وأمرهم باقام الصلاة إلى آخره.
قوله (ونهاهم عن أربع عن الحنتم) إلى آخره في جواب قوله: وسألوه عن الأشربة هو من اطلاق المحل وإرادة الحال، أي: ما في الحنتم ونحوه، وصرّح بالمُراد في رواية النسائي
من طريق قرة، فقال وأنهاكم عن أربع: ما ينتبذ في الحنتم.. الحديث، والحنتم -بفتح المهملة وسكون النون وفتح المثناة من فوق- هي الجرّة كذا فسّرها ابن عمر في صحيح مسلم، وله عن أبي هريرة الحنتم: الجرار الخضر، وروى الحربي في (الغريب) عن عطاء: أنها جرار كانت تعمل من طين وشعر ودم والدباء- بضم المهملة وتشديد الموحدة والمد- هو القرع، قال النووي: والمُراد اليابس منه.
وحكى القزاز فيه القصر، والنقير- بفتح النون وكسر القاف- أصل النخلة ينقر فيتخذ منه وعاء.
والمزفت- بالزاي والفاء- ما طلى بالزفت، والمقير- بالقاف والياء الأخيرة- ما طلى بالقار، ويقال له: القير، وهو نبت يُحرق إذا يبس تطلى به السفن وغيرها كما تطلى بالزفت، قاله صاحب المحكم.
وفى مسند أبى داود الطيالسي، عن أبي بكزة، قال: أما الدباء فإنّ أهل الطائف كانوا يأخذون القرع فيخرطون فيه العنب ثم يدفنونه حتى يهدر ثم يموت، وأما النقير: فإن أهل اليمامة كانوا ينقرون أصل النخلة ثم ينبذون الرطب والبسر ثم يدعونه حتى يهدر ثم يموت.
وأمّا الحنتم: فجرار كانت تحمل إلينا فيها الخمر.
وأمّا المزفت فهذه الأوعية التي فيها الزفت انتهى.
ومعنى النهى عن الانتباذ في هذه الأوعية بخصوصها لأنه يسرع فيها الاسكار، فربما شرب منها من لا يشعر بذلك ثم ثبتت الرخصة في الانتباذ في كل وعاء مع النهى عن شرب كل مسكر كما سيأتي في كتاب الأشربة إن شاء الله تعالى.
قوله: (وأخبروا بهن من وراءكم) بفتح من وهى موصولة، ووراءكم يشمل من جاؤوا من
عندهم، وهذا باعتبار المكان، ويشمل من يحدث لهم من الأولاد وغيرهم، وهذا باعتبار الزمان، فيحتمل أعمالها في المعنيين معا حقيقة ومجازا، واستنبط منه المصنف الاعتماد على أخبار الآحاد على ما سيأتي في بابه إن شاء الله تعالى(6) .
وفد عبد قيس
قوله: (باب وفد عبد القيس) هي قبيلة كبيرة يسكنون البحرين ينسبون إلى عبد القيس بن أفصى -بسكون الفاء بعدها مهملة- بوزن أعمى ابن دعمي- بضم ثم سكون المهملة وكسر الميم بعدها تحتانية ثقيلة- ابن جديلة- بالجيم وزن كبيرة- ابن أسد بن ربيعة بن نزار.
والذي تبين لنا أنه كان لعبد القيس وفادتان إحداهما قبل الفتح ولهذا قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: بيننا وبينك كفار مضر، وكان ذلك قديما، إما في سنة خمس أو قبلها، وكانت قريتهم بالبحرين أول قرية أقيمت فيها الجمعة بعد المدينة كما ثبت في آخر حديث في الباب.
وكان عدد الوفد الأول ثلاثة عشر رجلاً، وفيها سألوا عن الإيمان وعن الأشربة، وكان فيهم الأشج، وقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والآناة كما أخرج ذلك مسلم من حديث أبي سعيد.
وروى أبو داود من طريق أُم أبان بنت الوازع بن الزارع عن جدّها زارع، وكان في وفد عبد القيس، قال: فجعلنا نتبادر من رواحلنا، يعني: لما قدموا المدينة، فنقبّل يد النبي صلى الله عليه وسلم، وانتظر الأشج واسمه المنذر حتى لبس ثوبيه فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له:إنّ فيك لخصلتين الحديث.
وفي حديث هود بن عبد الله بن سعد العصري أنه سمع جدّه مزيدة العصري، قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يحدّث أصحابه إذ قال لهم: سيطلع عليكم من ههنا ركب هم خير أهل المشرق، فقام عمر فتوجه نحوهم، فلقى ثلاثة عشر راكبا، فبشرهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم، ثم مشى معهم حتى أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فرموا بأنفسهم عن ركائبهم فأخذوا يده فقبّلوها وتأخر الأشج في الركاب حتى أناخها وجمع متاعهم، ثم جاء يمشي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:إنّ فيك خصلتين الحديث.
أخرجه البيهقي وأخرجه البخاري في الأدب المفرد مطولا من وجه آخر عن رجل من وفد عبد القيس لم يسمه ثانيتهما كانت في سنة الوفود وكان عددهم حينئذ أربعين رجلا، كما في حديث أبي حياة الصناحي الذي أخرجه ابن منده، وكان فيهم الجارود العبدي، وقد ذكر ابن إسحاق قصته وأنه كان نصرانيا فأسلم وحسن إسلامه .
يؤيد التعدد ما أخرجه ابن حبان من وجه آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لهم:مالي أرى ألوانكم تغيّرت؟
ففيه إشعار بأنه كان رآهم قبل التغيّر، ثم ذكر البخاري في الباب أحاديث أحدها حديث ابن عباس.
قوله: (قلت لابن عباس إن لي جرة تنتبذ لي نبيذا) أسند الفعل إلى الجرّة مجازا.
وقوله: في جرّ يتعلّق بجرّة وتقديره:أن لي جرة كائنة في جملة جرار.
وقوله: خشيت أن افتضح، أي:لأني أصير في مثل حال السكارى، وسيأتي الكلام على ذلك في كتاب الأشربة إن شاء الله تعالى في الكلام على باب ترخيص النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الأدعية وقدم حديث الباب في أواخر كتاب الايمان(7) .
________________________________________
(1) عمدة القاري: 5/6-7.
(2) عمدة القاري للعيني: 18/20.
(3) عمدة القاري للعيني: 18/20.
(4) عمدة القاري للعيني: 18/22.
(5) شرح صحيح مسلم للنووي: 181-191.
(6) فتح الباري لابن حجر: 1/120-126.
(7) فتح الباري: 8/67-68.
تم ارسال رسالتك بنجاح